ويرد على الوجه الثاني أنّه مبنيّ على ما اختاره من اختصاص «حديثالحلّ» بالشبهات الموضوعيّة، وأمّا بناءً على المختار من شموله للشبهاتالحكميّة(2) فلايتمّ الاستدلال به.
وأمّا الدليل الثالث: فهو ينافي الدليل الأوّل، فإنّ «أصالة الحلّيّة» لو كانتبمدلولها المطابقي دالّة على الرخصة في الفعل والترك ـ كما ادّعاه في الدليلالثالث ـ للزم اختصاصها بموارد الدوران بين المحذورين، لأنّ الرخصة في الفعللاتلائم إلاّ احتمال الحرمة، والرخصة في الترك لا تلائم إلاّ احتمال الوجوب.
وأمّا الرخصة في الشبهات التحريميّة ـ التي دار الأمر فيها بين الحرمة وغيرالوجوب ـ فهي الرخصة في خصوص الفعل، كما أنّ الرخصة في الشبهاتالوجوبيّة ـ التي دار الأمر فيها بين الوجوب وغير الحرمة ـ هي الرخصةفي خصوص الترك.
وبالجملة: لا تتصوّر الرخصة في الفعل والترك إلاّ في موارد الدوران بينالوجوب والحرمة، وهذا ينافي ما أفاده في الدليل الأوّل الذي ادّعى فيهباختصاص دليل «أصالة الحلّيّة» بالشبهات التحريميّة.
على أنّ «حديث الحلّ» إذا اختصّ ـ بمقتضى الدليل الثالث ـ بموارد الدورانبين المحذورين، كان واردا في مورد العلم الإجمالي بالوجوب والحرمة، فكيف
يمكن أن يكون بمدلوله المطابقي منافيا للمعلوم بالإجمال؟!
والحقّ أنّه لامنافاة بين العلم الإجمالي بالحكم الإلزامي وبين «حديثالحلّ» حتّى بناءً على ما فسّره هذا المحقّق الكبير من كونه في مقام الترخيصبين الفعل والترك؛ لأنّ التكليف الإلزامي المعلوم هو حكم واقعي، والرخصةفي الفعل والترك المستفادة من «حديث الحلّ» فرضا، حكم ظاهري، ولا تنافيبينهما كما ثبت في مسألة التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري.
بيان الحقّ في المسألة
والتحقيق في المقام يقتضي أن يقال:
إنّ «حديث الحلّ» لا يعمّ الدوران بين المحذورين، بل يختصّبالشبهات التحريميّة ـ كما قال المحقّق النائيني رحمهالله في الدليل الأوّل ـ لكن لا يصحّالتعبير عن مدلوله بـ «أصالة الإباحة» بل الصحيح أن يعبّر عنه بـ «أصالةالحلّيّة».
والسرّ في اختصاصها بالشبهات التحريميّة أنّ «الحلّيّة» تكون في مقابلالحرمة، سيّما أنّ في بعض رواياتها ـ مثل «كلّ شيء فيه حلال وحرام» التصريح بهذه المقابلة، فقوله عليهالسلام : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّهحرام» يدلّ على أنّ الشيء إذا دار أمره بين الحرمة والحلّيّة فهو لك حلالحتّى تعلم أنّه حرام، وما هذا إلاّ الشبهة التحريميّة.
والحاصل: أنّ البراءة العقليّة وما يكون بلسان الرفع من البراءة النقليّةتجريان في موارد الدوران بين الوجوب والحرمة، دون ما يكون بلسانالإثبات والوضع ويعبّر عنه بـ «أصالة الحلّيّة».
القول في جريان الاستصحاب في المقام
ج5
لا ريب في أنّ الشيء الذي يدور أمره بين الوجوب والحرمة لم يكن قبلتعلّق التكليف به واجبا ولا حراما، فهل يجري استصحاب عدم كلّ منهمأم لا؟
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
قال المحقّق النائيني رحمهالله : لا، لأنّ الاستصحاب لمّا كان من الاُصول المتكفّلةللتنزيل(1) ـ كما سيأتي بيانه في محلّه ـ فلايمكن الجمع بين مؤدّاه والعلمالإجمالي، فإنّ البناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمته واقعا ـ كما هو مفادالاستصحابين ـ لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته، وسيأتي في محلّهأنّ الاُصول التنزيليّة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا، سواء لزم منهالمخالفة القطعيّة أو لم تلزم.
وإن شئت قلت: إنّ البناء على مؤدّى الاستصحابين ينافي الموافقةالالتزاميّة؛ فإنّ التديّن والتصديق بأنّ للّه تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميّاً،إمّا الوجوب أو الحرمة، لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمةواقعا(2)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
وفيه: أنّه مبنيّ على كون الاستصحاب أصلاً تنزيليّا أوّلاً، ولزوم الموافقةالالتزاميّة للتكاليف ثانيا، ويمكن المناقشة في كلا المبنيين.
أمّا عدم كونه أصلاً تنزيليّا: فلأنّ مدركه هو الأخبار التي مفاده
- (1) مراده من «الاُصول التنزيليّة» ما كان مفاده لزوم البناء على مؤدّاه. منه مدّ ظلّه.
- (2) فوائد الاُصول 3: 449.
(صفحه24)
«لاتنقض اليقين بالشكّ»، ولا ريب في عدم اقتضاء هذا المعنى لزوم البناء علىبقاء الحالة السابقة واقعا، بل هو يدلّ على وظيفة عمليّة ظاهريّة على طبقهفقط.
نعم، قال عليهالسلام في بعض الأخبار الواردة في مورد الشكّ بين الثلاث والأربع:«قام فأضاف إليها اُخرى، فيبني عليه»(1).
لكنّ الظاهر منه عند العرف هو البناء العملي، لا البناء على تحقّق الحالةالسابقة في الزمن اللاحق، ولابدّ من حمل الروايات على معانيها العرفيّة.
وأمّا عدم لزوم الموافقة الالتزاميّة: فلما تقدّم في مبحث القطع من عدم لزومالاعتقاد القلبي على طبق التكاليف، بل يكفي موافقتها العمليّة.
والحاصل: أنّ الاستصحاب لا يقتضي إلاّ وظيفة عمليّة ظاهريّة أوّلاً، وليجب الموافقة الالتزاميّة للتكاليف المعلومة بالإجمال ثانيا، وحيث إنّه لايمكنالموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ولا مخالفته القطعيّة في المقام فلا أثر له،كما تقدّم(2)، فلامنافاة بين العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي المردّد بين وجوبشيء وحرمته وبين استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة كليهما، فإنّ العلمناظر إلى الحكم الواقعي، والاستصحاب يعيّن الوظيفة الظاهريّة، وما به يوجّهالجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في سائر الموارد(3) فهو وجه الجمع بينهمفي المقام.
الحقّ في المسألة
- (1) وسائل الشيعة 8 : 217، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.والاُستاذ«مدّ ظلّه» لخّص الحديث بحذف بعض الفقرات من وسطه. م ح ـ ى.
- (3) كالشبهات البدويّة. م ح ـ ى.