ج5
الأقلّ، كما في المتباينين.
وثانياً: أنّ القول بكون الأقلّ ماهيّة بشرط شيء على تقدير كونالمشكوك جزءً للمأمور به، لا يستقيم، لأنّ البحث في جزئيّة المشكوك،لا في شرطيّته، وعلى تقدير كونه جزءً لا فرق بينه وبين الأجزاء المعلومة،فكما أنّه لا يصحّ التعبير عن الجزء المعلوم بالشرط لا يصحّ عن الجزءالمشكوك أيضاً، لأنّ الأجزاء كلّها في مرتبة واحدة، والعلم والشكّ لا يغيّرانالواقع.
وثالثاً: أنّ الماهيّة اللابشرط على قسمين: الماهيّة اللابشرط المقسمي،والماهيّة اللابشرط القسمي.
والماهيّة اللابشرط المقسمي: هي أن يكون الملحوظ نفس الماهيّة بما هيهي، من دون أن يلاحظ معها شيء آخر أصلاً، حتّى عدم لحاظ شيء آخر،وهذه على ثلاثة أقسام:
أ ـ الماهيّة بشرط الشيء، ب ـ الماهيّة بشرط لا، ج ـ الماهيّة اللابشرطالقسمي، وهي التي تكون ملحوظة بانضمام عدم لحاظ شيء آخر معها بنحويكون عدم لحاظ شيء آخر معها قيداً لها وملحوظاً معها.
فإن أراد المستشكل من الماهيّة اللابشرط، الماهيّة اللابشرط القسمي،سلّمنا وجود التباين بينها وبين الماهيّة بشرط الشيء، لكون كلّ منهما قسيمللآخر، ولكنّه لم يرد هذا المعنى من الماهيّة اللابشرط، بدليل قوله بتحقّقالاحتياط بإتيان الأكثر فقط ولا يجب على المكلّف إتيان صلاتين، فمراده منالماهيّة اللابشرط هي الماهيّة اللابشرط المقسمي، ولا تباين بينها وبين الماهيّةبشرط الشيء، كما هو واضح.
فالحاصل: أنّ الأقلّ متيقّن والزيادة مشكوك فيها، فيجب الإتيان بالأقلّ
(صفحه166)
وتجري البراءة العقليّة في الزيادة.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في رفع الإشكال
وقد أجاب المحقّق النائيني رحمهالله عن الإشكال بوجه آخر حيث قال:
إنّ الماهيّة لا بشرط والماهيّة بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لجامع بينهما، فإنّ التقابل بينهما ليس من تقابل التضادّ، بل من تقابل العدموالملكة، فإنّ الماهيّة لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيثيؤخذ العدم قيداً في الماهيّة، وإلاّ رجعت إلى الماهيّة بشرط لا، ويلزم تداخلأقسام الماهيّة، بل الماهيّة لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها لا لحاظالعدم، ومن هنا قلنا: إنّ الإطلاق ليس أمراً وجوديّاً، بل هو عبارة عن عدمذكر القيد، خلافاً لما ينسب إلى المشهور ـ كما ذكرنا تفصيله في مبحث المطلقوالمقيّد ـ فالماهيّة لا بشرط ليست مباينة بالهويّة والحقيقة للماهيّة بشرط شيءبحيث لا يوجد بينهما جامع، بل يجمعهما نفس الماهيّة، والتقابل بينهما إنّما يكونبمجرّد الاعتبار واللحاظ.
ففي ما نحن فيه، الأقلّ يكون متيقّن الاعتبار على كلّ حال، سواء لوحظالواجب لا بشرط أو بشرط شيء، فإنّ التغاير الاعتباري لا يوجب خروجالأقلّ عن كونه متيقّن الاعتبار(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في رفع الإشكال
ويرد عليه أوّلاً: أنّه أراد بـ «الماهيّة اللابشرط» الماهيّة اللابشرط المقسمي،على ما هو ظاهر كلامه، حيث قال: «فإنّ الماهيّة لا بشرط ليس معناها لحاظ
- (1) فوائد الاُصول 4: 154.
ج5
عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيداً في الماهيّة» فمقصوده هو الماهيّةاللابشرط المقسمي، ومع ذلك جعل نفس الماهيّة جامعة بينها وبين الماهيّةبشرط الشيء، إذ قال: «بل يجمعهما نفس الماهيّة» مع أنّ نفس الماهيّة هي عينالماهيّة اللابشرط المقسمي، لا الأعمّ منها ومن الماهيّة بشرط الشيء كيتكون جامعةً بينهما.
وثانياً: ما ذهب إليه من أنّ المتضادّين لا جامع بينهما غير صحيح، لأنّالمثال الواضح للضدّين هو السواد والبياض، واللون جامع بينهما.
وثالثاً: لا نسلّم أنّه كلّما كان الدوران بين العدم والملكة تجري البراءة،ألاترى أنّه لو علم العبد بأنّ المولى أمر بإكرام إنسان ولكن لم يعلم أنّه أمربإكرام إنسان أعمى وقال: «أكرم إنساناً أعمى» أو بإكرام إنسان بصير وقال:«أكرم إنساناً بصيراً» لوجب عليه الاحتياط بإكرام إنسانين: أحدهما بصير،والآخر أعمى، فإثبات أنّ بين الماهيّة اللابشرط وبشرط شيء تقابل العدموالملكة لا التضادّ غير كافٍ لإجراء البراءة.
ورابعاً: أنّ صدر كلامه لا يلائم ذيله، لأنّه قال في الصدر: التقابلبين الماهيّة اللابشرط وبشرط شيء تقابل العدم والملكة، وقال في الذيل:التقابل بينهما إنّما يكون بمجرّد الاعتبار، فإنّ هذين الكلامين لا يتلائمان؛ لأنّتقابل العدم والملكة من الاُمور الحقيقيّة، لا الاعتباريّة، فانظر إلى وجدانك،هل لا تجد فرقاً بين الأعمى والبصير واقعاً؟ هل الفرق بينهما في عالمالاعتبار؟!
الاُمور الاعتباريّة ـ كالزوجيّة ـ لا توجب أمراً واقعيّاً، ألاترى أنّالإنسان بعد التزويج لا يتغيّر بالنسبة إليه قبل التزويج ولكنّالشارع اعتبر الزوجيّة ورتّب عليها آثاراً مثل جواز النظر
(صفحه168)
والاستمتاع ووجوب النفقة، أمّا الإنسان الذي كان بصيراً ثمّ صار أعمىتغيّر واقعاً بعد حدوث العمى بالنسبة إليه قبله، فتقابل العدم والملكة أمرواقعي لا اعتباري.
إن قلت: البحث إنّما هو في المركّب الاعتباري الذي ليس بين أجزائهتركيب واقعاً، ولكنّ الشارع اعتبرها مركّباً، فالتقابل فيما نحن فيه وإن كانتقابل العدم والملكة، إلاّ أنّه أمر اعتباري.
قلت: إنّ التركيب فيما نحن فيه وإن كان باعتبار من الشارع، ولكن نفسالأعتبار أمر واقعي، انظر إلى وجدانك فإنّك تجد الفرق واقعاً بين من اعتبرشيئاً ومن لم يعتبره، وأيضاً تجد الفرق واقعاً بين من اعتبر تركيب شيء منتسعة اُمور وبين من اعتبر تركيبه من عشرة، فالتقابل فيما نحن فيه أمر حقيقيواقعي لا اعتباري.
والحاصل: أنّ جواب المحقّق النائيني «أعلى اللّه مقامه» عن الإشكالمخدوش من جهات عديدة.
البحث في انحلال العلم الإجمالي في موارد الأقلّ والأكثر
الإشكال الثالث: أنّ جريان البراءة في الدوران بين الأقلّ والأكثر يتوقّفعلى انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدويفي الزيادة، وهذا غير متحقّق في ما نحن فيه، لأنّ أمر الأقلّ دائر بين كونهواجباً نفسيّاً وبين كونه واجباً غيريّاً، فلو كان في الواقع واجباً نفسيّاً يترتّبعلى تركه العقاب، وإن كان واجباً غيريّاً لم يترتّب على تركه العقاب، فلا يحكمالعقل بلزوم إتيان الأقلّ على أيّ تقدير، فلا يكون وجوب الأقلّ معلومتفصيلاً، فأين الانحلال؟!
ج5
ويمكن الجواب عنه بوجهين:
الأوّل: يتوقّف على تبيين قاعدة «المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه»فنقول: لا شكّ في أنّ للمركّب وجوداً واحداً، وهو ما إذا تحقّق جميع أجزائه،فهل له عدم واحد أيضاً أو أعدام متكثّرة بتكثّر الأجزاء؟
الحقّ أنّ عدمه أيضاً واحد، لأنّ نقيض الواحد واحد، ولو كان له أعدامكثيرة للزم كثيراً ما ارتفاع النقيضين، وهو محال، فللمركّب عدم واحد كما أنّله وجوداً واحداً، لكن أسباب العدم متعدّدة، فإنّ عدم الصلاة ـ مثلاً ـ تارةً:يكون بترك الركوع، واُخرى: بترك السجود، وهكذا.
إذا عرفت هذا فنقول: كما يترتّب العقاب على ترك الأقلّ إذا كان واجبنفسيّاً، يترتّب على تركه أيضاً إذا كان واجباً غيريّاً(1)، لأنّ العقاب إنّما هولأجل ترك المأمور به، وتركه قد يكون بتركه رأساً وقد يكون بترك بعضأجزائه، فلاريب في استحقاق العقوبة على ترك الأقلّ على أيّ تقدير، أيسواء كان واجباً نفسيّاً، لكونه هو المأمور به، أو غيريّاً، لكون الأكثر هوالمأمور به، فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بالأقلّ على أيّ حال، وبجريان البراءةفي الزيادة، لأنّها مشكوكة بالشكّ البدوي.
إن قلت: لو أتى بالأقلّ وكان الأكثر في الواقع واجباً، لترك المأمور به وكانحاله كحال من تركه رأساً، فلِمَ فرّقت بينهما وقلت: يحكم العقل بعدماستحقاق العقوبة في الأوّل واستحقاقها في الثاني؟
قلت: الفرق بينهما واضح، لأنّ الأوّل وإن ترك المأمور به إلاّ أنّه معذور،لأنّه أتى بما كان معلوماً والشارع لم يبيّن الزيادة المشكوكة، والعقل يحكم بقبح
- (1) التعبير بالوجوب الغيري إنّما هو من باب المشي على مذهب الخصم، وإلاّ فنحن لا نقول بالوجوبالغيري للأقلّ، وإن كان الواجب هو الأكثر. منه مدّ ظلّه.