ج5
قول اللّه عزّ وجلّ: «لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» فقال: «كانتالمراضع ممّا تدفع إحداهنّ الرجل إذا أراد الجماع، تقول: لا أدعك، إنّي أخافأن أحبل فأقتل ولدي هذا الذي اُرضعه، وكان الرجل تدعوه المرأة، فيقول:أخاف أن اُجامعك فأقتل ولدي، فيدعها، فلا يجامعها، فنهى اللّه عزّ وجلّ عنذلك، أن يضارّ الرجل المرأة والمرأة الرجل»(1).
وعلى أيّ حال لا يكون «الضرار» في الآية بين الاثنين، لأنّه إن كان منقبل المرأة لا يتوجّه إليها من قبل الرجل ضرر أصلاً، وإن كان العكسفالعكس، سواء قلنا بالتفسير الأوّل، أو الثاني، ولا يكون أيضاً بمعنى الضررالمالي أو الجسمي، لأنّه على التفسير الأوّل: تضييق روحي إمّا على المرأة بنزعالرجل ولدها عنها، وإمّا على الرجل بعدم إرضاع المرأة إيّاه، ولا ريب في أنّهذا يرتبط بالعاطفة، لا المال أو النفس، وعلى الثاني: تضييق يرتبط بإطفاءالغريزة الشهويّة إمّا عليها بأن لا يجامعها الرجل، وإمّا عليه بامتناعها عنه.
وهاهنا آيات اُخر استعمل فيها أيضاً «الضرار» الذي هو مفاعلةالضرر(2).
فاتّضح من الآيات والروايات وكلام بعض أرباب اللغة(3) أنّ غالب موارداستعمال «الضرار» وتصاريفه هو التضييق وإيصال المكروه والحرج والتكلّفوأمثالها، كما أنّ الشائع في الضرر والضرّ والإضرار هو استعمالها في المالوالنفس، فبينهما تفاوت معنوي، فلا يكون «لا ضرار» في الحديث تأكيد
- (1) الكافي 6: 41، كتاب العقيقة، باب الرضاع، الحديث 6، ووسائل الشيعة 21: 457، كتاب النكاح، الباب 72من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 1.
- (2) كقوله تعالى في سورة البقرة، الآية 282: «وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ» وقوله في سورة النساء، الآية12: «مِنم بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ». م، ح ـ ى.
- (3) مثل ما ذكر من القاموس. م ح ـ ى.
(صفحه406)
لـ «لا ضرر».
والضرر الواصل إلى الأنصاري في قصّة سمرة بن جندب أيضاً لم يكنمربوطاً بالمال أو النفس، بل أوقعه سمرة في اضطراب روحي بدخوله في الدارمن غير استيذان واطّلاعه على أهله، ولم يضرّه الأنصاري حتّى يكون بينالاثنين أو جزاءً عليه، ومع ذلك قال صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار».
إن قلت: هذا لا يدلّ على كون عمل سمرة داخلاً في «الضرار» إذ يمكندخوله في «الضرر»، نعم، لو اكتفى صلىاللهعليهوآله عقيب القصّة بـ «لا ضرار» لعلم كونعمله «ضراراً» ولكنّه صلىاللهعليهوآله حيث قال: «لا ضرر ولا ضرار» فالدخول في كلّمنهما محتمل، فلم يثبت انحصار «الضرر» بالضرر المالي والنفسي، لاحتمالشموله لقصّة سمرة مع الأنصاري، وإنّما هي تضييق روحي، ولم يثبت أيضانحصار «الضرار» بغيرهما، لاحتمال كونه في الحديث بمعنى الضرر المالي أوالجسمي، ولا عدم كونه بين الاثنين، لاحتمال كونه في الحديث بين الاثنين.
قلت: لا يكون عمل سمرة داخلاً في قوله: «لا ضرر»، بل في قوله: «لضرار»، لأنّه صلىاللهعليهوآله قال على ما في المرسلة: «إنّك رجلٌ مضارّ، ولا ضرر ولضرار على مؤمن» ولم يقل: «إنّك رجل ضارّ» حتّى يصلح لدخول عمله في«لا ضرر».
وأيضاً قال صلىاللهعليهوآله على ما في رواية أبي عبيدة الحذّاء: «ما أراك يا سمرة إلمضارّاً» ولم يقل: «إلاّ ضارّاً».
البحث حول مفاد الجملة التركيبيّة
قد عرفت أنّ المستفاد من كلام ابن الأثير أنّ «لا» في الحديث للنهي، حيثقال: «فمعنى قوله: لا ضرر، أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه،
ج5
والضرار: فِعال من الضرّ، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه».
وفيه: أنّ الأمر والنهي يختصّان بالفعل، وكلّ من الضرر والضرار اسم(1)،ولا يمكن النهي عن الاسم، وتفسيرهما بالفعل ـ كما فعله ـ تحكّم.
فلا يكون «لا» للنهي، بل لنفي الجنس كما عليه المشهور.
وحينئذٍ فهل يمكن إرادة الحقيقة من الجملة أم لا؟
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله : لا يمكن إرادة الحقيقة منها، إذ لا يمكنإنكار وجود الضرر في الإسلام، فلابدّ من إرادة المجاز، وهو نفي تشريعالضرر، بمعنى أنّ الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد، تكليفيّكان أو وضعيّاً، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون، فينتفيبالخبر، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك، وكذلك وجوب الوضوءعلى من لا يجد الماء إلاّ بثمن كثير، وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلىعذقه وإباحته له من دون استيذان من الأنصاري(2)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه.
أقول: هذا الاستعمال إمّا أن يكون من قبيل قيام المسبّب مقام السبب، فإنّالضرر والضرار مسبّبان عن الحكم الضرري المنفيّ حقيقةً، أو من باب المجازفي الحذف، فلابدّ من تقدير شيء مناسب قبل الضرر والضرار(3)، أو من قبيلالحقيقة الادّعائيّة التي قال بها السكّاكي في الاستعارة، بناءً على جريانها فيالمجاز المرسل أيضاً.
- (1) «الضرر» مصدر أو اسم مصدر، و«الضرار» مصدر باب المفاعلة. منه مدّ ظلّه.
- (2) فرائد الاُصول 2: 460.
- (3) كأن يراد بالحديث: «لا حكم ضرريّاً ولا ضراريّاً». م ح ـ ى.
(صفحه408)
ما أفاده المحقّق النائيني والعراقي والحائري رحمهمالله
وذهب الأعلام الثلاثة: النائيني والعراقي والحائري «قدّس اللّه أسرارهم»إلى أنّه لا تجوّز ولا ادّعاء في قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار»، بل اُريد منهمعناه الحقيقي بلا عناية ومسامحة(1)، وكلّ منهم ذكر له وجهاً، لكنّها(2) متقاربة،فنذكر ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله لأجل كونه أتمّ وأطول، فإن أجبنا عنه ظهرحال الوجهين الآخرين الذين ذكرهما العراقي والحائري رحمهماالله .
وحيث إنّ النائيني رحمهالله ذكر لتقريب ما اختاره مقدّمات عديدة طويلة مملّةنذكر أهمّها ـ وهو اثنان ـ مع رعاية الاختصار وحذف الزوائد.
الأوّل: أنّ حال «لا ضرر ولا ضرار» حال «رفع عن اُمّتي تسعة»(3) بعينه،ولا وجه للقول بالتجوّز وتقدير المضاف في حديث «الرفع» إلاّ على القولبكون قوله: «رفع» في مقام الإخبار عن عالم التكوين المستلزم للكذب لواُريد المعنى الحقيقي، ونحن لا نقول به، بل نقول بكونه في مقام الإنشاء في عالمالتشريع.
وعلى هذا فالمرفوع في بعض فقرات الحديث نفس العنوان المأخوذ فيه،مثل «ما لا يعلمون» لو اُريد من الموصول الأحكام، فإنّ معناه «رفع الأحكامالتي لا يعلمونها» مثل حرمة شرب التتن، ولا ريب في كون هذا حقيقةً بلتجوّز وادّعاء أصلاً، فإنّه صلىاللهعليهوآله في مقام رفع الأحكام الواقعيّة عن الجاهل بهحقيقةً، لكن في الظاهر، إذ الحكم الواقعي ـ الذي يشترك فيه العالم والجاهل
- (3) كتاب الخصال: 417، باب التسعة، الحديث 9.
ج5
لا يمكن أن يرفع لأجل الجهل.
وفي بعضها آثار العنوان المأخوذ فيه، مثل «رفع النسيان» فإنّا لو قلنبكون «النسيان» هاهنا بمعنى المنسيّ فالمرفوع آثاره، مثل الصلاة المنسيّة فيالوقت المرفوع أثرها فرضاً، وهو القضاء(1).
ففي هذا القسم وإن كان المرفوع آثار العنوان، لكن رفع الآثار في مقامالتشريع يساوق رفع نفس الموضوع ذي الأثر حقيقةً، ولم يكن مثل الاُمورالتكوينيّة التي لا ترفع برفع آثارها تكويناً.
فالحاصل: أنّ حديث «الرفع» استعمل في جميع فقراته بنحو الحقيقة بلادّعاء وتقدير أصلاً، لأنّه في مقام الإنشاء في عالم التشريع، لا في مقام الإخبارعن التكوينيّات، وهذا أيضاً حال قوله: «لا ضرر ولا ضرار» بعينه.
الثاني: أنّ الجمل على ثلاثة أقسام: بعضها متمحّض في الإنشاء، مثل الأمروالنهي، فإن قال المولى: «أكرم زيداً» أو «لا تكرم عمراً» لا يحتمل الإخبارأصلاً.
وبعضها متمحّض في الإخبار، وهو فيما إذا كان الموضوع جامداً غير مصدّربـ «لا» و«ليس» ونحوهما، ولم يكن المحمول من الإيقاعات، مثل «زيد قائم»فهذه الجملة متمحّضة في الإخبار ولا يمكن إرادة الإنشاء منها أصلاً. واحترزبعدم كون المحمول من الإيقاعات من مثل «الوطي في العدّة رجوع». وهذالمثال وإن لا يخلو من الإشكال، لكن ذكرناه لمجرّد توضيح مقصوده، والمناقشةفي المثال ليست من دأب المحصّلين.
وبعضها ذو وجهين: أي يمكن إرادة كلّ من الإنشاء والإخبار منه، مثل
- (1) هذا مثال فرضي مع قطع النظر عن أدلّة وجوب القضاء، إذ بملاحظتها لا مجال للتمسّك بحديث «الرفع»لرفع القضاء. منه مدّ ظلّه.