ج5
علم إجمالي أصلاً ـ كما قلنا به ـ فيقول بعدم وجوب الاحتياط، بل يجريالبراءة بالنسبة إلى الزائد المشكوك.
وهذا الفرق غير مؤثّر في إتيان العمل بداعي الأمر وعدمه، فإنّه لا ريب فيأنّ كليهما يأتيان بالعمل بداعي أمره.
أمّا من أتى بالأقلّ لأجل الرياء والعجب وأمثالهما فعمله وإن كان باطلاً إلأنّه ليس محلاًّ للنزاع، فإنّ الآتي بالأكثر أيضاً لو قصد الرياء وأمثاله لكانعمله باطلاً غير مقرّب.
وثانياً: نحن لا نقول بالوجوب الغيري للأقلّ على تقدير كون المأمور به هوالأكثر، بل المكلّف يأتي بأجزاء الواجب بداعي الأمر الذي تعلّق بالمركّب،فإذا سألنا المصلّي عن علّة ركوعه مثلاً، يقول: لأجل قوله تعالى: «أَقِيمُواْالصَّلَوةَ»(1) ولا يقول: لأجل الأمر الغيري المترشّح من قوله تعالى: «أَقِيمُواْالصَّلَوةَ» وذلك لأنّ المركّب والأجزاء شيء واحد، والفرق بينهما إنّما هوبالإجمال والتفصيل، فمبنى هذا الإشكال ـ وهو أنّ الأمر لو كان متعلّقاً بالأكثرواقعاً فوجوب الأقلّ يكون غيريّاً غير صالح للمقرّبيّة ـ باطل، فالإشكالأيضاً يكون باطلاً.
فقد ثبت جريان البراءة العقليّة في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر إذكان المشكوك جزءاً.
المقام الثاني: في البراءة الشرعيّة
ولابدّ هاهنا من البحث تارةً: بناءً على القول بجريان البراءة العقليّة فيالبحث السابق، واُخرى: بناءً على القول بعدمه، فنقول:
- (1) وردت في آيات كثيرة، منها: سورة البقرة: 43.
(صفحه184)
أمّا بناءً على جريان البراءة العقليّة، وبعبارة اُخرى: بناءً على القول بانحلالالعلم الإجمالي، أو بعدم وجوده رأساً ـ كما قلنا به ـ فلا شكّ في جريان البراءةالشرعيّة بالنسبة إلى الحكم التكليفي وهو وجوب الأكثر، فإنّه أمرٌ مشكوكفيه بالشكّ البدوي، فيعمّه حديث الرفع، ولا شكّ في جريانها أيضاً بالنسبةإلى الحكم الوضعي، وهو الجزئيّة لو قلنا بكون الجزئيّة من الأحكام الوضعيّةالتي وضعها ورفعها بيد الشارع، فإنّ جزئيّة المشكوك ممّا لا تعلم، فيعمّهحديث الرفع.
وأمّا بناءً على عدم الانحلال فوقع الخلاف بينهم.
نظريّة صاحب الكفاية رحمهالله في جريان البراءة الشرعيّة في المقام
فالمحقّق الخراساني رحمهالله مع ذهابه في المبحث السابق إلى عدم الانحلال ولزومالاحتياط عقلاً ذهب هاهنا إلى جريان البراءة الشرعيّة ولم يفصّل بين القولبكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وبين القول بكونهمقتضياً له(1).
وسيجيء بيان كيفيّة جريانها عند المحقّق الخراساني رحمهالله .
ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله في المسألة
لكنّ المحقّق الشيخ ضياء الدين العراقي رحمهالله فصّل وقال بعدم جريان البراءةالشرعيّة بناءً على كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة،وبجريانها بناءً على كونه مقتضياً له مؤثّراً فيه لو لم يمنع عنه مانع(2).
- (2) نهاية الأفكار 3: 389.
ج5
بيان ما هو الحقّ في المقام
ومقتضى التحقيق أن يقال: بناءً على عدم الانحلال لا مجال لجريان البراءةالشرعيّة أصلاً، وإن كان العلم الإجمالي مقتضياً لوجوب الموافقة القطعيّة.
وذلك لأنّ الدليل على البراءة الشرعيّة هو حديث الرفع، وهذا الحديث ليصلح لأن يتمسّك به هاهنا إلاّ بأحد وجوه ثلاثة:
أ ـ أن يرفع به الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر، فإنّه ممّا لا يعلم، فيرفعهحديث الرفع.
ب ـ أن يرفع به الحكم الوضعي، أعني الجزئيّة، كجزئيّة السورة للصلاة،فإنّها مشكوكة فرضاً، فيرفعها الحديث.
ج ـ أن يرفع به الوجوب الغيري المتعلّق بالجزء المشكوك، فإنّه أيضاً ممّا ليعلم، فيعمّه الحديث.
نقد الوجوه المتصوّرة في جريان حديث الرفع في المقام
لكن كلّ هذه الوجوه باطلة.
أمّا الأوّل: فلأنّه معارض بجريان أصالة البراءة الشرعيّة بالنسبة إلىالوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ، فإنّه كما كان الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثرممّا لا يعلم، فكذلك الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ، وحيث لا يمكن جريانالحديث في كليهما للزوم المخالفة القطعيّة العمليّة للتكليف المعلوم تعارضالأصلان، فلا يجري الأصل، لا في ناحية الأكثر ولا في ناحية الأقلّ.
لا يقال: أصل الوجوب في الأقلّ ـ مع قطع النظر عن كونه نفسيّاً أوغيريّاً ـ متيقّن، لأنّه لا يخلو من أن يكون واجباً نفسيّاً أو غيريّاً، فأصل
(صفحه186)
الوجوب فيه معلوم، فلا مجال لجريان البراءة فيه، ولكنّه في الأكثر مشكوكفيه، فالحديث يعمّه ويرفعه بلا معارض.
فإنّه يقال: أصل الوجوب ليس مجعولاً شرعيّاً، بل المجعول من قبل الشارعخصوص الوجوب النفسي أو الغيري، ولكن أصل الوجوب جامع انتزاعيلهما، والشاهد على هذا أنّ الوجوب أمر اعتباري، والشارع إنّما يعتبر الوجوبالنفسي أو الغيري لا أصل الوجوب، فإذا كان أصل الوجوب منتزعاً مننوعيه فلا يتمكّن الشارع من رفعه، لأنّه لا يكاد يرفع إلاّ ما كان وضعه بيده،فلا يكاد يندرج أصل الوجوب المشكوك في الأكثر تحت حديث الرفع.
لا يقال: جريان الاُصول إنّما يكون بلحاظ الأثر الشرعي لها، وأمّا إذا لميكن للأصل أثر شرعي فلا يكاد يكون جارياً، وأصالة البراءة في الوجوبالنفسي المتعلّق بالأكثر تكون ذات أثر شرعي، وهو عدم لزوم الإتيان بالجزءالمشكوك، بخلاف الأصل الجاري في الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ، إذ ليسله أثر شرعي، لأنّ الأقلّ يجب إتيانه بلا ريب، فحديث الرفع لا يمكن أن يرفعالوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ بلحاظ عدم لزوم الإتيان به، ولا يتصوّر لهأثر آخر.
والحاصل: أنّ الأصل في ناحية الأكثر ذو أثر شرعي، لا في ناحية الأقلّ،فلا يجري في الثاني، ويجري في الأوّل بلا معارض.
فإنّه يقال: لا يشترط أن يكون للأصل أثر شرعي في جميع الموارد، بليكفي في جريانه ترتّب الأثر عليه في بعض الموارد، والأصل في ناحية الأقلّوإن كان بلا أثر فيما نحن فيه، إلاّ أنّ له أثراً في مورد تعذّر المشكوك.
توضيح ذلك: أنّ الأقلّ لو كان واجباً نفسيّاً لوجب الإتيان به حتّى عندتعذّر الجزء المشكوك، وإلاّ فلا، بل سقط التكليف رأساً، فإذا تعذّرت السورة
ج5
وشككنا في أنّ سائر الأجزاء هل هي واجبة بالوجوب النفسي، فيجبالإتيان بها، أم لا، فيسقط التكليف رأساً، فأصل البراءة الشرعيّة حينئذٍ يحكمبرفع الوجوب النفسي وأثره عدم لزوم الإتيان بسائر الأجزاء، فالأصلفي ناحية الأقلّ وإن لم يكن له أثر فيما نحن فيه، إلاّ أنّ له أثراً في بعض موارده،وهذا كافٍ في جريانه في جميع الموارد.
والحاصل: أنّ جريان الأصل الشرعي ـ المستفاد من مثل «حديث الرفع» في الواجب النفسي المتعلّق بالأكثر معارض بجريانه في الواجب النفسي المتعلّقبالأقلّ، فلا يجري في واحد منهما.
كلام صاحب الكفاية في كيفيّة جريان حديث الرفع في المقام
وأمّا الثاني ـ أعني جريان البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى الجزئيّة ـ : فالمحقّقالخراساني رحمهالله قال به في الكفاية، حيث قال: وأمّا النقل فالظاهر أنّ عموم مثل«حديث الرفع» قاضٍ برفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته، فبمثله يرتفع الإجمالوالتردّد عمّا تردّد أمره بين الأقلّ والأكثر ويعيّنه في الأوّل(1).
ثمّ أورد إشكالاً وأجاب عنه بقوله:
لا يقال: إنّ جزئيّة السورة المجهولة مثلاً ليست بمجعولة(2)، وليس لها أثر
- (2) اختلفوا في إمكان تعلّق الجعل بالأحكام الوضعيّة، وفصّل المحقّق الخراساني رحمهالله بين أقسامها بقوله:
والتحقيق أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء: منها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً، لا استقلالاً ولتبعاً، ومنها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلاّ تبعاً للتكليف، ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالبإنشائه وتبعاً للتكليف.
ثمّ جعل الجزئيّة من القسم الثاني، حيث قال: وأمّا النحو الثاني: فهو كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّةوالقاطعيّة لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعه وقاطعه، حيث إنّ اتّصاف شيء بجزئيّة المأمور به أوشرطيّته أو غيرهما لا يكاد يكون إلاّ بالأمر بجملة اُمور مقيّدة بأمر وجودي أو عدمي، إنتهى موضعالحاجة من كلامه. كفاية الاُصول: 455. م ح ـ ى.