(صفحه38)
والحكم بالاحتياط في هذه المسألة بمثابة من الوضوح يدركه أصاغرالطلبة فضلاً عن مثل هذين المحقّقين الكبيرين رحمهماالله ، فلابدّ من حمل كلامهما علىغير هذه الصورة.
الثاني: أن لا نعلم بتكليف قطعي فعلي من جميع الجهات، لكن نعلم إجمالبقيام أمارة معتبرة على التكليف، كما إذا علمنا بخمريّة هذا الإناء أو ذلك الإناءوفرضنا أنّ آية «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاْءَنصَابُ وَالاْءَزْلَـمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِالشَّيْطَـنِ»(1) تعمّ بإطلاقها الخمر المعلومة بالإجمال أيضاً.
وكما إذا قام خبر معتبر على وجوب صلاة في يوم الجمعة، لكن لم تتّضحدلالته على أنّ الواجب هو صلاة الظهر أو صلاة الجمعة.
ففي هذا الفرض لم يحصل لنا علم إجمالي بالتكليف، بل حصل العلم بقيامحجّة معتبرة عليه.
وهذه الصورة على نوعين:
الأوّل: أنّا نعلم بأنّ الأمارة لو كانت مطابقة للواقع لما رضي المولى بمخالفتهبوجه من الوجوه حتّى في صورة تردّده بين أمرين أو أكثر.
ولا يخفى لزوم الاحتياط التامّ والموافقة القطعيّة في هذه الصورة أيضاً؛ لأنّالفرق بينها وبين الصورة السابقة إنّما هو أنّ الترخيص في الصورة السابقة كانيستلزم القطع باجتماع النقيضين، وفي هذه الصورة يستلزم احتمال اجتماعهما، أمّالقطع باجتماع النقيضين في الصورة الاُولى فلأنّا نقطع فرضا أنّ المولى حرّمقتل ابنه مثلاً مطلقا وبأيّ وجه من الوجوه، ثمّ أجاز قتله إذا كان مردّدا بينشخصين أو أشخاص، وهذا تناقض ظاهر مقطوع به.
وأمّا احتمال الاجتماع في الصورة الثانية فلأنّ الخبر الدالّ على وجوب
ج5
الصلاة المردّدة بين الظهر والجمعة لو لم يكن مطابقا للواقع فلا محذور، وأمّا إذكان مطابقا للواقع وكان الواجب صلاة الجمعة مثلاً فلو لم يرض المولى بتركصلاة الجمعة بأيّ وجه من الوجوه ـ كما هو المفروض ـ ثمّ أجاز في ترك أحدالصلاتين اللتين تردّد الخبر بينهما لكان تناقضا، لاحتمال أن يترك العبدـ باستناد الترخيص ـ صلاة الجمعة التي هي الواجبة في الواقع، فكأنّه قال: لتترك صلاة الجمعة حتّى في صورة الترديد، ويجوز لك أن تتركها في صورةالترديد، وهذا تناقض ظاهر.
وبالجملة: حيث إنّا نقطع بالتكليف في الصورة الاُولى كان الترخيص فيمخالفة أحد أطراف العلم الإجمالي يستلزم القطع باجتماع النقيضين، بخلافالصورة الثانية؛ لأنّا لانقطع بالتكليف في هذه الصورة، بل نقطع بقيام الأمارةالمعتبرة عليه التي يحتمل مطابقتها ومخالفتها للواقع، فالترخيص في مخالفةبعض الأطراف فيها يستلزم احتمال اجتماع النقيضين. لكن لا فرق بينهما منحيث الامتناع، فإنّ احتمال اجتماع النقيضين محال كالقطع به.
النوع الثاني من الصورة الثانية: أن نعلم إجمالاً بقيام أمارة معتبرة علىالتكليف المردّد بين أمرين، لكن ليس ذلك التكليف بمثابة نعلم بعدم رضالمولى بمخالفته مطلقا وبأيّ وجه من الوجوه، بل يحتمل أن يرضى بمخالفته فيموارد كونه مردّدا بين أمرين أو أكثر لأجل مصلحة أقوى.
ثمّ لا إشكال في وجوب الاحتياط التامّ والموافقة القطعيّة للتكليف لو لميرخّص المولى في تركه، إذ لا فرق بين العلم الإجمالي والأمارة الإجماليّةفي تنجّز التكليف بهما، لأنّ الأمارة بدليل حجّيّته تصير حجّة، كالعلم، فتجبالموافقة القطعيّة للأمارة الإجماليّة كما تجب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي.
إنّما الإشكال في أنّ الترخيص في هذه الصورة جائز أو ممتنع؟ وعلى فرض
(صفحه40)
الجواز فهل يمكن الترخيص في المخالفة القطعيّة أو لا يمكن إلاّ تجويز المخالفةالاحتماليّة فقط، ثمّ كيف التوفيق بين إطلاقات حجّيّة الأمارة وبين ترخيصالشارع بترك مفادها عند الإجمال، فلابدّ من التكلّم في مقام الثبوت أوّلاً ثمّ فيمقام الإثبات ثانيا، فنقول:
البحث في مقام الثبوت
إنّ الترخيص في هذه الصورة ليس ممتنعا بحسب مقام الثبوت؛ إذ لا يلزممنه أحد المحذورين المتقدّمين: أعني القطع باجتماع النقيضين أو احتمالاجتماعهما.
إن قلت: لعلّ الأمارة كانت مطابقة للواقع، فكيف يمكن أن يصدر حكمواقعي من قبل المولى ثمّ يجوّز تركه بمقتضى الترخيص؟
قلت: يمكن أن يحدث في صورة الإجمال والترديد مصلحة أقوى تقتضي أنيرضى المولى بترك التكليف الواقعي المدلول عليه بالأمارة الإجماليّة، كما أنّالأمر كذلك في الشبهات البدويّة، بل في جميع موارد الجمع بين الحكمالظاهري و الواقعي، فكما أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما لا يعلمون» ترخيص فيارتكاب شرب التتن المشكوك الحكم الذي ربما كان حراما في الواقع، لأجلمصلحة التسهيل على العباد، كذلك الأمر فيما نحن فيه.
وبالجملة: أصل الترخيص في مخالفة مدلول الأمارة الإجماليّة أمرٌ ممكن،فهل يجوز الإذن في المخالفة القطعيّة أو يختصّ بالمخالفة الاحتماليّة بتجويز تركبعض الأطراف في الشبهات الوجوبيّة وارتكاب بعضها في الشبهاتالتحريميّة؟ وأمّا الترخيص في ترك جميع الأطراف في الاُولى وارتكاب جميعهفي الثانية فلا يجوز.
ج5
كأنّ قائلاً يقول: لا يجوز الترخيص في المخالفة القطعيّة لوجهين:
أ ـ أنّه يستلزم الترخيص في معصية المولى، ومعصيته قبيحة عقلاً،والترخيص في القبيح قبيح منافٍ للحكمة، فلايصدر من المولى الحكيم.
ب ـ أنّه يستلزم التناقض، لأنّ بين إطلاق دليل حرمة شرب الخمروالترخيص في ارتكاب كلا الإنائين الذين نعلم إجمالاً بخمريّة أحدهما،وكذلك بين الخبر القائم بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة وبين الإذن في ترككليهما تناقضا بيّنا.
ويمكن المناقشة فيهما:
أوّلاً: بالنقض بالشبهات البدويّة، فإنّ شرب التتن المشكوك الحكم لو كانفي الواقع حراما لكان الترخيص في ارتكابه بأدلّة البراءة ترخيصا بارتكابالحرام الواقعي، وهو أيضاً يستلزم المحذورين المتقدّمين، فما هو جوابكم هناكفهو جوابنا هاهنا.
وثانيا: أنّ المعصية لم تتحقّق إلاّ عند مخالفة تكليف واقعي فعلي من جميعالجهات، بحيث لا يرضى المولى بعدم رعايته أصلاً، كالصورة الاُولى والثانية،بل قد لا يرضى المولى بمخالفة التكليف المحتمل، ولو لم يكن معلوما تفصيلولا إجمالاً(1).
وفي ما نحن فيه وكذلك في الشبهات البدويّة لم يقع إلاّ مخالفة حكم واقعي،لكنّا لانعلم بإصرار الشارع على رعايته على أيّ وجه وعدم رضاه بمخالفتهمطلقا حتّى في صورة الجهل والترديد.
والحاصل: أنّ إجراء البراءة في الشبهات البدويّة وارتكاب جميع الأطراف
- (1) كما إذا خرج ابن المولى من الحجرة واحتمل العبد أنّه يسقط في الحوض ويغرق، فيجب عليه حينئذٍ أنيعقّبه ويحفظه لو كان مشرفا على الخطر، ولو لم يعتدّ بهذا الاحتمال وغرق ابن المولى لاستحقّ العقوبة،وليس له أن يعتذر بعدم علمه بذلك. منه مدّ ظلّه.
(صفحه42)
في المقام ـ على فرض الترخيص ـ وإن كان يستلزم مخالفة حكم واقعي، إلاّ أنّبعض موارد المخالفة لا تعدّ معصية، فلا قبح في تجويزها عقلاً، إذ يمكن أنيكون في موردها مصلحة أقوى لأجلها رخّص الشارع فيها.
وبهذا انقدح جواب مسألةالتناقض، لأنّالتناقض يتوقّف على كون الشارعمصرّاً على رعاية الحكم الواقعي على أيّ حال، ومع ذلك أذِنَ في تركه.
وأمّا إذا رفع اليد عن إطلاق دليل حرمة شرب الخمر مثلاً عند اشتباههبين إنائين ولميُلزِم العبد برعاية هذا الحرام الواقعي حينئذٍ لأجل مصلحةأقوى فلم يكن الترخيص في ارتكاب كلا الإنائين مستلزما للتناقض.
كيفيّة الجمع بين المطلقات وبين الترخيص المخالف له
ثمّ إنّ الترخيص يبدو في بادئ النظر أن يكون مقيّدا للمطلقات، فإنّ دليلحرمة شرب الخمر مثلاً مطلق شامل للخمر المردّدة بين الإنائين، وما دلّ علىإذن الشارع في ارتكابهما يقيّده.
لكنّ الدقّة في المسألة تقتضي خلافه، لأنّ التقييد يختصّ بما إذا كان موردالمقيّد خارجا من بداية الأمر عن تحت المطلق بحسب المراد الجدّي، إلاّ أنّا كنّنتخيّل الإطلاق، وما نحن فيه ليس كذلك، لأنّ دليل حرمة شرب الخمرمطلق واقعا ويدلّ على أنّ الخمر ـ سواء كانت معلومة تفصيلاً أو إجمالاً حرام واقعا وبإرادة جدّيّة، لكنّ المولى أذن في ترك هذا الحكم الواقعي فيما إذكان مردّدا بين إنائين.
وبالجملة: إنّ الدليل المطلق باقٍ على إطلاقه حتّى بعد الظفر علىالترخيص، لكنّ المكلّف مأذون في مخالفته بالنسبة إلى مورد الترخيص لأجلمصلحة أقوى.