ج5
أقول: صحّة هذا الجواب مبنيّ على صحّة تعلّق الأمر بالمطلق والمقيّدكليهما، ولا مانع منه إلاّ القول بتضادّ الأحكام الخمسة التكليفيّة والقول بتماثلهفيما إذا كان الحكمان من سنخ واحد، فإنّه كما لا يجوز اجتماع الضدّين، كذلك ليجوز اجتماع المثلين.
ولكنّا لا نقول بتضادّ الأحكام ولا بتماثلها.
والشاهد على هذا أنّه يمكن أن يأمر شخص بفعل شيء وينهى شخصآخر عنه، كما إذا أمر الوالد ولده بقتال العدوّ ونهته الوالدة عنه، مع أنّه لو كانبين الوجوب والحرمة، والأمر والنهي مضادّةٌ لامتنع جمعهما في موضوع واحدولو بإرادة شخصين، كما أنّ السواد والبياض الذين بينهما مضادّة حقيقيّة ليجتمعان في جسم واحد، وإن أراد شخص سواده وشخص آخر بياضه، فعلممن ذلك أنّ التضادّ الحقيقي الفلسفي إنّما يتحقّق في الاُمور الواقعيّة، وأمّا الاُمورالاعتباريّة التي منها الأحكام الخمسة فلا يتحقّق فيها التضادّ الفلسفي المانعمن اجتماعها.
إن قلت: فما المانع من أن تكون صلاة الجمعة مثلاً واجبة ومحرّمة؟
قلت: إنّما المانع منه عدم إمكان كونها ذات مصلحة ومحبوبة له تعالىوذاتمفسدة ومبغوضة له في آن واحد، لا التضادّ بين الأمر والنهي المتعلّقين بها.
فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره المحقّق العراقي رحمهالله في الجواب عن الإشكالأيضاً(1) تامّ، لعدم التماثل بين الأمرين المتعلّق أحدهما بالجامع بين القصروالتمام، والآخر بخصوص القصر.
هذا تمام الكلام في الشبهات الحكميّة، وقد عرفت عدم جريان البراءة فيهقبل الفحص.
- (1) أي كما كان كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في ذلك تامّاً. م ح ـ ى.
(صفحه380)
البحث حول الفحص في الشبهات الموضوعيّة
فهل الشبهات الموضوعيّة أيضاً كذلك أم لا؟
ولابدّ من التكلّم هاهنا تارةً في البراءة العقليّة، واُخرى في البراءة الشرعيّة:
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في ذلك
أمّا البراءة العقليّة ـ بناءً على جريانها في الشبهة الموضوعيّة(1) ـ : فسيّدنالاُستاذ الأعظم الإمام «مدَّ ظلّه العالي» ذهب إلى عدم جريانها قبل الفحص،حيث قال:
فالحقّ فيها عدم معذوريّة الجاهل قبل الفحص عند العقل والعقلاءوالوجدان، فلو قال المولى: «أكرم ضيفي» وشكّ العبد في أنّ زيداً ضيفه أو لا،فلايجوز له المساهلة بترك الفحص مع إمكانه، خصوصاً إذا كان رفع الشبهةسهلاً والمشتبه مهمّاً، وما قرع سمعك من معذوريّة الجاهل وقبح عقابه بلسبب وحجّة فإنّما هو فيما إذا لم يكن الجهل في معرض الزوال، أو لم يكن العبدمقصّراً في تحصيل أغراض مولاه.
نعم، بعدما استفرغ وسعه لكان لما ذكره من القاعدة مجال.
وعليه فملاك صحّة العقوبة هو عدم جريان الكبرى العقليّة قبل الفحصوالبحث(2).
إنتهى كلامه، وهو صحيح متين في البراءة العقليّة.
وأمّا البراءة الشرعيّة: فتارةً نبحث عنها بالنسبة إلى الشبهات التحريميّة،
- (1) فإنّه مختلف فيه، فقال بعضهم بالجريان، وبعض آخر بعدمه. منه مدّ ظلّه.
- (2) تهذيب الاُصول 3: 433.
ج5
واُخرى بالنسبة إلى الشبهات الوجوبيّة.
الشبهات التحريميّة وكلام الشيخ الأنصاري رحمهالله فيه
أمّا الشبهات التحريميّة: فذهب شيخنا الأعظم الأنصاري رحمهالله إلى أنّه لإشكال ولا خلاف ظاهراً في عدم وجوب الفحص فيها(1).
الحقّ في المسألة
أقول: نحن نسلّم تحقّق الإجماع في المقام، لاعتمادنا بناقله، وهو الشيخالأعظم، ولكنّه دليل لبّي لا إطلاق فيه، بل لابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منه،وهو في المقام ما إذا كان في الفحص مشقّة شديدة، وأمّا إذا كان رفع الشبهةبالفحص سهلاً ـ كما إذا أراد شرب مايع في دار زيد ولكنّه شكّ في أنّه ماء أوخمر مع حضور زيد عنده وإمكان رفع الشكّ بالسؤال عنه ـ فلم يعلم تحقّقالإجماع على عدم لزوم الفحص هاهنا وجريان «كلّ شيء هو لك حلال»(2)قبله.
نعم، إذا شكّ في الطهارة والنجاسة لا يجب عليه الفحص ولو كان سهلاً، بليجوز إجراء قاعدة الطهارة المستفادة من قوله عليهالسلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلمأنّه قذر»(3) حتّى فيما إذا أمكن رفع الشبهة بمجرّد النظر إلى المشكوك، كما إذعلم برطوبة ثوبه وشكّ في أنّه بول أو ماء، مع إمكان رفع الشكّ بالنظر إليه.
الشبهات الوجوبيّة وكلام المحقّق النائيني رحمهالله فيه
- (1) فرائد الاُصول 2: 441.
- (2) الكافي 5: 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 40.
- (3) وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.
(صفحه382)
وأمّا الشبهات الوجوبيّة: ففصّل المحقّق النائيني رحمهالله فيها بين ما لو لم يفحصلترك الواجب غالباً أو دائماً، فيجب الفحص فيه، كوجوب الحجّ المشروطبالاستطاعة، ووجوب الزكاة المشروط بالنصاب، فمن شكّ في وجوب الحجّعليه لأجل الشكّ في استطاعته يجب عليه الفحص، ولا يجوز له التمسّكبـ «حديث الرفع» وأمثاله، لأنّه يستلزم ترك الحجّ الواجب غالباً، لأنّه قلّميتّفق علم الإنسان باستطاعته بدون الفحص، وهكذا مسألة الزكاة ونحوهما،فلو لم يجب الفحص في هذا النوع من الواجبات لكان تشريع وجوبها لغواً،فنعلم أنّبين إيجابها ووجوبالفحص عن تحقّق شرط وجوبها ملازمةً عرفيّةً.
وبين(1) غيره من الواجبات، فلا يجب الفحص فيها، بل يجوز إجراء البراءةبدونه، لأنّ قوله عليهالسلام : «رفع ما لا يعلمون»(2) مطلق يعمّ الشبهة الموضوعيّة قبلالفحص وبعده، وعدم جواز التمسّك به قبل الفحص يحتاج إلى دليل يقيّده،وهو منتفٍ هاهنا، فنتمسّك بإطلاقه(3).
هذا حاصل ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله مع زيادة توضيح منّا، وهوصحيح متين.
هذا تمام الكلام في وجوب الفحص وعدمه عند إجراء البراءة، وقد تعرّضنللبحث في جميع جوانبه: من البراءة العقليّة والنقليّة، في جميع أنواع الشبهة:حكميّة كانت أو موضوعيّة، وجوبيّة كانت أو تحريميّة، خلافاً لسائر الأعلاموالمحقّقين، حيث لم يتعرّض كلّ منهم إلاّ لقطعة من هذا البحث الطويل الذيل.
- (1) عطف على «بين ما لو لم يفحص». م ح ـ ى.
- (2) الخصال: 417، باب التسعة، الحديث 9.
- (3) فوائد الاُصول 4: 301.
ج5