ج5
والضرار: فِعال من الضرّ، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه».
وفيه: أنّ الأمر والنهي يختصّان بالفعل، وكلّ من الضرر والضرار اسم(1)،ولا يمكن النهي عن الاسم، وتفسيرهما بالفعل ـ كما فعله ـ تحكّم.
فلا يكون «لا» للنهي، بل لنفي الجنس كما عليه المشهور.
وحينئذٍ فهل يمكن إرادة الحقيقة من الجملة أم لا؟
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله : لا يمكن إرادة الحقيقة منها، إذ لا يمكنإنكار وجود الضرر في الإسلام، فلابدّ من إرادة المجاز، وهو نفي تشريعالضرر، بمعنى أنّ الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد، تكليفيّكان أو وضعيّاً، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون، فينتفيبالخبر، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك، وكذلك وجوب الوضوءعلى من لا يجد الماء إلاّ بثمن كثير، وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلىعذقه وإباحته له من دون استيذان من الأنصاري(2)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه.
أقول: هذا الاستعمال إمّا أن يكون من قبيل قيام المسبّب مقام السبب، فإنّالضرر والضرار مسبّبان عن الحكم الضرري المنفيّ حقيقةً، أو من باب المجازفي الحذف، فلابدّ من تقدير شيء مناسب قبل الضرر والضرار(3)، أو من قبيلالحقيقة الادّعائيّة التي قال بها السكّاكي في الاستعارة، بناءً على جريانها فيالمجاز المرسل أيضاً.
- (1) «الضرر» مصدر أو اسم مصدر، و«الضرار» مصدر باب المفاعلة. منه مدّ ظلّه.
- (2) فرائد الاُصول 2: 460.
- (3) كأن يراد بالحديث: «لا حكم ضرريّاً ولا ضراريّاً». م ح ـ ى.
(صفحه408)
ما أفاده المحقّق النائيني والعراقي والحائري رحمهمالله
وذهب الأعلام الثلاثة: النائيني والعراقي والحائري «قدّس اللّه أسرارهم»إلى أنّه لا تجوّز ولا ادّعاء في قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار»، بل اُريد منهمعناه الحقيقي بلا عناية ومسامحة(1)، وكلّ منهم ذكر له وجهاً، لكنّها(2) متقاربة،فنذكر ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله لأجل كونه أتمّ وأطول، فإن أجبنا عنه ظهرحال الوجهين الآخرين الذين ذكرهما العراقي والحائري رحمهماالله .
وحيث إنّ النائيني رحمهالله ذكر لتقريب ما اختاره مقدّمات عديدة طويلة مملّةنذكر أهمّها ـ وهو اثنان ـ مع رعاية الاختصار وحذف الزوائد.
الأوّل: أنّ حال «لا ضرر ولا ضرار» حال «رفع عن اُمّتي تسعة»(3) بعينه،ولا وجه للقول بالتجوّز وتقدير المضاف في حديث «الرفع» إلاّ على القولبكون قوله: «رفع» في مقام الإخبار عن عالم التكوين المستلزم للكذب لواُريد المعنى الحقيقي، ونحن لا نقول به، بل نقول بكونه في مقام الإنشاء في عالمالتشريع.
وعلى هذا فالمرفوع في بعض فقرات الحديث نفس العنوان المأخوذ فيه،مثل «ما لا يعلمون» لو اُريد من الموصول الأحكام، فإنّ معناه «رفع الأحكامالتي لا يعلمونها» مثل حرمة شرب التتن، ولا ريب في كون هذا حقيقةً بلتجوّز وادّعاء أصلاً، فإنّه صلىاللهعليهوآله في مقام رفع الأحكام الواقعيّة عن الجاهل بهحقيقةً، لكن في الظاهر، إذ الحكم الواقعي ـ الذي يشترك فيه العالم والجاهل
- (3) كتاب الخصال: 417، باب التسعة، الحديث 9.
ج5
لا يمكن أن يرفع لأجل الجهل.
وفي بعضها آثار العنوان المأخوذ فيه، مثل «رفع النسيان» فإنّا لو قلنبكون «النسيان» هاهنا بمعنى المنسيّ فالمرفوع آثاره، مثل الصلاة المنسيّة فيالوقت المرفوع أثرها فرضاً، وهو القضاء(1).
ففي هذا القسم وإن كان المرفوع آثار العنوان، لكن رفع الآثار في مقامالتشريع يساوق رفع نفس الموضوع ذي الأثر حقيقةً، ولم يكن مثل الاُمورالتكوينيّة التي لا ترفع برفع آثارها تكويناً.
فالحاصل: أنّ حديث «الرفع» استعمل في جميع فقراته بنحو الحقيقة بلادّعاء وتقدير أصلاً، لأنّه في مقام الإنشاء في عالم التشريع، لا في مقام الإخبارعن التكوينيّات، وهذا أيضاً حال قوله: «لا ضرر ولا ضرار» بعينه.
الثاني: أنّ الجمل على ثلاثة أقسام: بعضها متمحّض في الإنشاء، مثل الأمروالنهي، فإن قال المولى: «أكرم زيداً» أو «لا تكرم عمراً» لا يحتمل الإخبارأصلاً.
وبعضها متمحّض في الإخبار، وهو فيما إذا كان الموضوع جامداً غير مصدّربـ «لا» و«ليس» ونحوهما، ولم يكن المحمول من الإيقاعات، مثل «زيد قائم»فهذه الجملة متمحّضة في الإخبار ولا يمكن إرادة الإنشاء منها أصلاً. واحترزبعدم كون المحمول من الإيقاعات من مثل «الوطي في العدّة رجوع». وهذالمثال وإن لا يخلو من الإشكال، لكن ذكرناه لمجرّد توضيح مقصوده، والمناقشةفي المثال ليست من دأب المحصّلين.
وبعضها ذو وجهين: أي يمكن إرادة كلّ من الإنشاء والإخبار منه، مثل
- (1) هذا مثال فرضي مع قطع النظر عن أدلّة وجوب القضاء، إذ بملاحظتها لا مجال للتمسّك بحديث «الرفع»لرفع القضاء. منه مدّ ظلّه.
(صفحه410)
«يعيد» فإنّه كثيراً ما استعمل في مقام الإنشاء، كقوله عليهالسلام : «يعيد صلاته»(1)فإنّه يكون بمعنى «يجب عليه إعادة صلاته»، وكثيراً ما استعمل في الإخبارأيضاً، فإنّك إذا سألت صديقك عن فعل زيد، فقال: «يعيد صلاته» فلا ريب فيكونه للإخبار، ومثل «بعت» فإناستعملته بقصد الإيجاب وقلت: «بعتك كتابيهذا بعشرة دراهم» فلاريب في كونه للإنشاء، وإن استعملته في جواب السائلالذي قال: «أين كتابك؟» وقلت: «بعت كتابي» فلا ريب في كونه للإخبار.
ثمّ قال رحمهالله : وليس صحّة تعدّد الاستعمال بسبب الوضع، إذ الوضع لم يكنمتعدّداً، بل بحسب مدلول السياق، فإنّ سياق الكلام تارةً يقتضي الإنشاء،واُخرى يقتضي الإخبار، كما هو واضح من المثالين المتقدّم ذكرهما آنفاً.
وإذا كان صحّة تعدّد الاستعمال بحسب مدلول السياق لا بحسب الوضع فلمانع من أن يراد من جملة واحدة في استعمال واحد كلا المعنيين ـ أي الإنشاءوالإخبار معاً ـ بالنسبة إلى الموارد المتعدّدة والمصاديق المختلفة، كأن يراد فرضمن قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» النفي والنهي معاً، لكنّ النفي بالنسبة إلىبعض المصاديق والنهي بالنسبة إلى بعض آخر.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في معنى حديث «لا ضرر»
إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم أنّه رحمهالله بعد ذكرهما وذكر ما لم ننقله منالمقدّمات قال: أصوب الوجوه أنّ المنفيّ في قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» هوالحكم الضرري، ويكون الاستعمال مع ذلك بنحو الحقيقة من دون تجوّزوادّعاء.
- (1) هذه الجملة وردت في روايات كثيرة، منها: ما في وسائل الشيعة 6: 16، كتاب الصلاة، الباب 3 من أبوابتكبيرة الإحرام، الحديث 1.
ج5
لا يقال: هذا لا يتصوّر إلاّ في الأفعال التي لها عنوانان أحدهما سبب مولّدللآخر، كالضرب المعنون بنفس عنوان «الضرب» وعنوان «الضرر» المسبّبعنه، ففي هذه الأفعال نفي أحد العنوانين يساوق نفي الآخر حقيقةً، لأنّهمحاكيان عن شيء واحد، فإذا قيل: «لا ضرر» يشمل نفي الضرب حقيقةً،وهذا نفي بسيط، هذا في التكوينيّات.
وأمّا في التشريعيّات: فلا يتصوّر هذا المعنى، إذ لا يمكن توجيه النفيإلىالضرر وإرادة الحكم الضرري بلا تجوّز وادّعاء، لأنّ النفي فيها وإن كانبحسب الظاهر نفياً بسيطاً، إلاّ أنّه نفي تركيبي واقعاً، وهو مجاز.
فإنّه يقال: يمكن تصوّر ما ذكرت في التشريعيّات أيضاً، أمّا في الأحكامالوضعيّة فلأنّ الحكم بلزوم البيع الغبني مثلاً المستفاد من إطلاق قوله تعالى:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) عنوان لعمل الشارع، و«الضرر» عنوان ثانٍ له متولّد منالأوّل، وأمّا في الأحكام التكليفيّة فلأنّ إيجاب الوضوء مثلاً على كلّ من اُمربالصلاة المستفاد من إطلاق قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىالْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»(2) عنوان لعمل الشارع،و«الضرر» المتوجّه إلى بعضٍ باستعمال الماء عنوان آخر له متولّد من الأوّل،فنفي الضرر بالحديث نفي للحكم الوضعي والتكليفي حقيقةً.
إن قلت: بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة فرق، وهو أنّ الحكم بلزوم البيعالغبني مثلاً مستلزم للضرر من دون توسّط أمر آخر، وأمّا إيجاب الوضوء فليستلزم الضرر مباشرةً، بل بتوسّط إرادة التوضّي وإيجاده في الخارج،والشاهد على هذا أنّه لو لم يرده أو أراد ولكن لم يتوضّأ خارجاً لم يتوجّه إليه