(صفحه158)
شيئاً واحداً ذا أثر مطلوب.
ومثال الثاني: الصلاة، فإنّ الشارع لاحظ أنّ الأثر المطلوب ـ مثل النهيعن الفحشاء والمنكر وغيره من الآثار ـ لا يحصل إلاّ بإتيان مجموع أشياءمختلفة منضمّة بعضها إلى بعض على الترتيب المخصوص، فهذه الأشياء معكونها من مقولات شتّى غير قابلة للاختلاط والامتزاج اعتبرها الشارع شيئواحداً لتحصيل الأثر الذي لا يحصل إلاّ بها.
فالمركّب الحقيقي والاعتباري يشاركان في جهة، وهي فناء الأجزاء فيهموعدم استقلالها بعد التركيب، فإنّه كما أنّ جزء المعجون لا يكون مستقلاًّ بعدالتركيب، كذلك الركوع الصلاتي أيضاً لا يكون مستقلاًّ بعد التركيب واعتبارهجزءً للصلاة، ولكنّهما يختلفان في جهة اُخرى، وهي أنّ الفناء في المركّبالحقيقي واقعي، وفي الاعتباري اعتباري.
الثاني: أنّ كيفيّة تحصّل المركّب في ذهن الآمر غالباً تكون عكس كيفيّةإتيانه في الخارج، بمعنى أنّ المكلّف إذا همَّ بإتيان مركّب، تتعلّق إرادته أوّلبوجوده الوحداني، غافلاً عن أجزائه وشرائطه، ثمّ ينتقل منه إليها، وتتولّدإرادات اُخرى متعلّقة بها على وجه يحصل المركّب منها، فإذا همّ بإتيان الصلاةتتعلّق إرادته أوّلاً بأصل طبيعتها من غير أن تتعلّق بالأجزاء، ويكون المحرّكللعبد الأمر المتعلّق بالطبيعة، ولمّا رأى أنّها لا تحصل إلاّ بإتيان أجزائهوشرائطها على طبق المقرّر الشرعي تتولّد إرادات تبعيّة له متعلّقة بها.
وأمّا الآمر إذا همَّ بتعليق الأمر بالمركّب فلابدّ له ـ غالباً ـ من تصوّرالأجزاء والشرائط أوّلاً مستقلاًّ، ثمّ ترتيبها حسب ما تقتضي المصلحة والملاكالنفس الأمريّين، ثمّ لحاظها على نعت الوحدة وإفناء الكثرات فيها، ليحصلالمركّب الاعتباري، ثمّ يجعلها موضوعاً للأمر ومتعلّقاً للإرادة، فالآمر ينتهي
ج5
من الكثرة إلى الوحدة غالباً، والمأمور من الوحدة إلى الكثرة.
الثالث: تقدّم في مقدّمة الواجب البحث في وجود المقدّمة الداخليّة وعدمها،فأنكرها بعضهم وأثبتها بعض آخر، ومثّل لها بالأجزاء، وتقدّم البحث أيضفي أنّ المقدّمة هل هي واجبة شرعاً أم لا؟ بل العقل يحكم بلزوم إتيانها.
الحقّ: أنّ الأجزاء مقدّمات داخليّة، ضرورة توقّف وجود المركّب علىوجود أجزائه، فعلى القول بوجوب المقدّمة فهل الأجزاء أيضاً كذلككالمقدّمات الخارجيّة أم لا؟
نقول: لا، لأنّ القائل بوجوب المقدّمة قال به لأجل إيجاد الداعي في نفسالمكلّف، وحيث إنّ الوجوب النفسي المتعلّق بالمركّب يكفي للداعويّة إلىأجزائه ـ لعدم المغايرة بينهما إلاّ بالإجمال والتفصيل ـ يكون الداعي في نفسالمكلّف إلى الأجزاء موجوداً بنفس ذلك الوجوب النفسي، فلا نفتقر إلى القولبوجوبها الغيري.
والشاهد على هذا أنّا إذا سألنا المصلّي بمثل لِمَ تركع؟ قال: لأجل قولهتعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»(1) فالداعي له إلى إتيان الركوع هو الأمر المتعلّقبالصلاة الذي هو أمر نفسي.
فإن قلت: كيف يدعو الأمر المتعلّق بالصلاة إلى الركوع مثلاً مع أنّ الأمر ليدعو إلاّ إلى ما تعلّق به؟
قلت: نعم، الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، لكنّا لا نقول بكون الصلاة المأموربها شيئاً والأجزاء أشياء اُخر محصّلة لها وسبباً لتحقّقها كي يرد علينالإشكال، بل نقول: المغايرة بين الصلاة وأجزائها إنّما هي بالإجمال والتفصيل،ولا ريب في أنّ المجمل والمفصّل في الحقيقة شيء واحد، فالأمر المتعلّق بالأوّل
- (1) وردت في آيات كثيرة، منها: سورة البقرة: 43.
(صفحه160)
يكون داعياً إلى الإتيان بالثاني.
نقد ما أفاده المحقّق البروجردي رحمهالله في المقام
ولا يخفى عليك أنّا لا نقول بمقالة سيّدنا الاُستاذ الحاج آقا حسينالبروجردي رحمهالله في باب الصلاة حيث قال:
إنّ للأمر أبعاضاً بعدد أجزاء الصلاة، وكلّ بعض منه تعلّق بجزء منها،كاللحاف الواحد الذي تحته أفراد متعدّدة.
إن قلت: كيف يكون الأمر الواحد متعلّقاً بأجزاء متعدّدة من مقولاتمختلفة؟ مع استلزامه كون الشيء الواحد متّصفاً بصفات متضادّة.
قلت: انظر إلى الماء الكثير الذي في حوض واحد، فلا ريب في أنّه ماءواحد لأجل الاتّصال ـ الذي هو دليل الوحدة، كما ثبت في الفلسفة ـ ومع ذلكيمكن أن يلوّن بعضه بلون وبعضه الآخر بلون آخر وبعضه الثالث بلون ثالث،فكما أنّ الماء الواحد يتّصف بصفات مختلفة متضادّة باعتبار أبعاضه فلا مانعمن أن يتعلّق الأمر الواحد بأشياء مختلفة متضادّة باعتبار أبعاضه(1). هذتوضيح مقالة سيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله .
وما اخترناه وإن كان شبيهاً بها، إلاّ أنّه غيرها، لأنّا نقول: أجزاء المركّبـ كالصلاة ـ لا تكون مأموراً بها أصلاً، فإنّ الأمر تعلّق بالصلاة لا بأجزائها،ولكن حيث يكون المغايرة بينهما بالإجمال والتفصيل فقط يكون الأمر ـ مععدم تعلّقه بالأجزاء ـ داعياً ومحرِّكاً إلى الإتيان بها.
وبعبارة اُخرى: إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب واحد متعلّق بواحد، وليستالأجزاء متعلّقة للأمر، لعدم شيئيّة لها في لحاظ الآمر عند لحاظ المركّب، ول
ج5
يرى عند البعث إليه إلاّ صورة وحدانيّة هي صورة المركّب فانية فيها الأجزاء،فهي تكون مغفولاً عنها، ولا تكون متعلّقة للأمر أصلاً، فالآمر لا يرى في تلكالملاحظة إلاّ أمراً واحداً، ولا يأمر إلاّ بأمر واحد، لكن هذا الأمر الوحدانييكون داعياً إلى إتيان الأجزاء بعين داعويّته للمركّب وحجّةً عليها بعينحجّيّته عليه، لكون المركّب هو الأجزاء في لحاظ الوحدة والاضمحلال،والأجزاء هي المركّب في لحاظ الكثرة والانحلال، وحيث إنّ المركّب يتركّبمن الأجزاء وينحلّ إليها يكون الأمر به حجّة عليها لا بحجّيّة مستقلّة، وداعيإليها لا بداعويّة على حدة(1).
والحاصل: أنّ الأجزاء لا تكون مأموراً بها عندنا، لا بالأمر النفسي، ولبأبعاضه، ولا بالأمر الغيري.
الرابع: أنّ النزاع في جريان البراءة في الأقلّ والأكثر وعدمه مبنيّ علىالقول بوضع الألفاظ للأعمّ من الصحيح والفاسد، وأمّا القائل بوضعهلخصوص الصحيح فلا يمكن له إجراء البراءة بالنسبة إلى الجزء المشكوك، لأنّالبراءة ـ على القول بجريانها ـ إنّما تجري فيما إذا اُحرز عنوان المأمور به ولكنشككنا في صحّته وفساده في صورة خلوّه من الجزء المشكوك، وهذا مبنيّعلى القول بالأعمّ، وأمّا على القول بالصحيح فالشكّ في الصحّة مساوق للشكّفي تحقّق أصل العنوان.
بيان ما هو الحقّ في المقام
- (1) قال الإمام الخميني«مدّ ظلّه» ـ على ما في تعليقة «أنوار الهداية 2: 281» ـ : ومن ذلك ينبغي أن يقال: إنّ فيعقد البحث بأنّ الواجب يتردّد بين الأقلّ والأكثر لا يخلو من مسامحة، لأنّ الأمر متعلّق بالصورةالوحدانيّة، وفي هذا اللحاظ لا أقلّ ولا أكثر في البين، وإنّما الدوران في صورة لحاظ الكثرة وباعتبارالانحلال، والأمر سهل، إنتهى كلامه«مدّ ظلّه».
(صفحه162)
إذا عرفت هذه الاُمور الأربعة نقول: لا مانع من جريان البراءة العقليّة فيالجزء المشكوك، فإنّه لا ريب في أنّا إذا شككنا في أنّ الشارع هل أمر بالمركّبالفلاني أم لا؟ يحكم العقل بالبراءة ويجوّز الترك، لقبح العقاب بلا بيانوالمؤاخذة بلا برهان، ولا ريب أيضاً في أنّا لو علمنا بأنّ الشارع أمر بالصلاةمثلاً، وعلمنا أيضاً أنّ الصلاة مركّبة في نظره من أجزاء ولكن لم يبيّن أجزائهأصلاً لحكم العقل أيضاً بالبراءة وقبح العقاب بلا بيان.
فإذا علمنا بأمره بالصلاة مثلاً وبأنّه بيّن أنّ كلّ واحدة من القراءة والركوعوالسجود والتشهّد والتسليم جزء لها، ولكن شككنا في جزئيّة السورة مثليحكم العقل بالبراءة عن السورة؛ لأنّ الشارع لم يبيّن جزئيّتها، فلم تكنالحجّة موجودة بالنسبة إليها، لتوقّف الحجّة في المركّبات على مقدّمتين:
أ ـ أن يأمر الشارع بالمركّب.
ب ـ أن يبيّن أجزائها، وهذان الأمران موجودان بالنسبة إلى الأجزاءالمعلومة، بخلاف الجزء المشكوك فيه، لعدم تبيينها من قبل الشارع، فلا يكونالأمر المتعلّق بالمركّب داعياً إليه، فإذا اجتهد العبد في تحصيل العلم بأجزاءالمركّب، وبذل جهده في التفحّص عن الأدلّة بمقدار ميسوره، وقامت الحجّةعلى عدّة أجزاء للمركّب، وعلم أنّ المولى قد أخذها فيه قطعاً، وشكّ فياعتبار شيء آخر جزءً، فأتى بما قامت الحجّة عليه، وترك غيرها ممّا هومشكوك فيه، لا يعدّ عاصياً، ويكون العقاب على تركه بلا بيان ولا برهان.
إن قلت: كيف كان العلم الإجمالي منجّزاً في المتباينين ولا يكون منجّزاً فيالأقلّ والأكثر الارتباطيّين؟
قلت: ليس لنا علم إجمالي هاهنا، لأنّ الأمر بالصلاة مثلاً معلوم تفصيلاً لإجمالاً، وهو متعلّق بنفس الصلاة، لا بأجزائها، كما بيّنا في المطلب الثالث،