(صفحه448)
جاز له القلع، وإن رفع النزاع ودفع الضرر بطريق آخر لا يجوز.
فاتّضح بذلك عدم ورود الإشكال النقضي ـ الذي ذكرناه في جواب المحقّقالنائيني رحمهالله ـ علينا.
تنبيهات القاعدة
وينبغي التنبيه على اُمور:في تنبيهات القاعدة «لا ضرر»
حكم دفع الضرر عن الغير وعن النفس إذا استلزم تضرّر الغير
الأوّل: أنّ الموضوع في حديث «الضرر» هو الإضرار بالغير، وأمّا دفعالضرر عنه فأجنبيّ عن مفاده، فلو توجّه ضرر إلى الغير لا يقتضي الحديثوجوب دفعه عنه.
وأمّا دفع الضرر عن نفسه لو كان مستلزماً لتضرّر الغير فإن لم يصدقعليه عنوان «الإضرار به» كدفع السيل عن داره الموجب لتوجّهه بنفسه إلىدار الغير فجائز، وإن صدق عليه عنوان «الإضرار به» كدفعه إلى دار الغيرلئلاّ يتوجّه إلى داره فغير جائز.
كلّ ذلك واضح، لأنّ الممنوع هو الإضرار بالغير مباشرةً أو تسبيباً، لتحمّل الضرر عنه أو وجوب دفعه عنه.
القول في الإكراه على الإضرار بالغير
الثاني: إذا اُكره على الإضرار بالغير فهل يجوز له ذلك أم لا؟
مقتضى «حديث الرفع» هو الجواز، لحكومته على دليل النهي عن الإضراربالغير، لأنّه حاكم على أدلّة الأحكام الأوّليّة، سواء كان المحكوم حكماً إلهيّاً، أو
ج5
نبويّاً صادراً عن مقام ولايته صلىاللهعليهوآله .
وإن أبيت عن ذلك وثقل عليك حكومته على الحكم النبوي السلطانيأمكن القول بحكومته على دليل وجوب إطاعة الرسول بما هو سلطان، وهوقوله تعالى: «أَطِيعُوا الرَّسُولَ» فإنّ هذا حكم إلهي لا مانع من حكومة«حديث الرفع» عليه، فكما أنّه حاكم على دليل حرمة شرب الخمر ورافع لهفي صورة الإكراه، فكذلك يكون حاكماً أيضاً على دليل وجوب إطاعة الرسولوالسلطان ورافعاً له في تلك الصورة، إذ لا فرق بين حرمة شرب الخمرووجوب إطاعة الرسول في كون كلّ منهما حكماً إلهيّاً.
نعم، القول بحكومة «حديث الرفع» على أدلّة الأحكام في جميع الموارد غيرصحيح، إذ لا يمكن رفع اليد عن الأدلّة الأوّليّة لأجل الإكراه فيما لو اُكره علىهدم الكعبة وإحراق المصحف وأمثالهما، وكذا لو أمر الوالي المتولّي من قبلهبهتك حرمات الناس وضربهم وشتمهم وسبي نسائهم وهدم بيوتهم ونهبأموالهم، وأوعده بما يتحقّق به أوّل مرتبة من الإكراه عند عدم الامتثال، فليمكن الالتزام بجواز هذه الأفعال باستناد «حديث الرفع».
فالحقّ في المسألة هو التفصيل بين ما إذا كان ما اُكرِهَ عليه متناسباً لما اُوعِدبه، فـ «حديث الرفع» حاكم على «حديث الضرر» وسائر أدلّة الأحكامالأوّليّة، وبين ما إذا لم يكن متناسباً له ـ بأن يكون ما اُكرِهَ عليه من المهمّاتوالموبقات، وما اُوعِدَ به مثل الشتم والهتك والضرب وأخذ عشرة دنانيرمثلاً ـ فلا يكون حاكماً عليه، بل في بعض الموارد لا يمكن الالتزام بالجوازحتّى مع الإيعاد بالقتل.
القول فيما إذا تعارض تضرّر الغير مع تضرّر المالك
(صفحه450)
الثالث: لو استلزم التصرّف في ملكه الضرر على غيره، وتركه الضرر علىنفسه، كما أنّه لو حفر بئراً في داره لتضرّر الجار، ولو لم يحفر يلزم الضرر علىنفسه، فهل يجوز هذا التصرّف أم لا؟
قال المشهور بالجواز، وقد استدلّ عليه بوجهين:
أ ـ انصراف حديث الضرر عمّا إذا كان ترك تصرّفه في ملكه موجبلتضرّره، لأنّ النهي عن الإضرار بالغير لا يقتضي تحمّل الضرر، فلا يجب علىالمالك تحمّله بترك التصرّف في ملكه لئلاّ يقع الضرر على جاره.
وهذا الدليل متين صحيح.
ب ـ أنّ جواز حفر البئر مثلاً ضرري، لتضرّر الجار به، ومنع المالك عنالتصرّف في ملكه أيضاً ضرري، لتضرّر المالك به، فيتعارض حديث «لضرر» في مصداقين من نفسه، وذلك لأنّه قضيّة حقيقيّة منحلّة إلى قضايكثيرة، وإذا سقط الحديث عن صلاحيّة التمسّك به في المقام يرجع إلى قاعدة«السلطنة» أو إلى الاُصول العقليّة والشرعيّة.
وفيه: أنّه لا يعقل أن يتكفّل دليل نفي نفسه أو مصاديقه، فقوله صلىاللهعليهوآله :«لا ضرر ولا ضرار» إنشاء لنفي الأحكام الضرريّة ـ على مسلكهم ـ فهذالإنشاء لا يمكن أن ينفي «لا ضرر» لاستلزامه كون الدليل النافي نافياً لنفسهومعدماً لذاته أو مصاديقه التي هي هو.
لا يقال: حكومة مصداق من «لا تنقض اليقين بالشكّ» على مصداق آخرفي الشك السببي والمسبّبي من هذا القبيل.
فإنّه يقال: قضيّة الشكّ السببي والمسبّبي ليست من قبيل ما نحن فيه، بلالاستصحاب الجاري في السبب يرفع الشكّ الذي هو موضوع الأصلالمسبّبي، فلا يجري لعدم تحقّق الموضوع، وهذا ممّا لا مانع منه.
ج5
وأمّا لو فرض في مورد نفي «لا تنقض» نفسه، أي يتكفّل إنشاء عدم نقضاليقين بالشكّ إعدام عدم النقض فهو أيضاً محال، وما نحن فيه من هذا القبيل.
ولو استلزم التصرّف في ملكه الضرر على الغير وترك التصرّف لا يوجبالضرر على نفسه، إلاّ أنّه يوجب الحرج والضيق والكلفة عليه، فهل يقدّم دليلنفي الضرر، وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» أو دليل نفي الحرج، وهو قولهتعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»؟(1)
قيل: دليل الحرج حاكم على دليل الضرر، فيجوز للمالك أن يتصرّف فيملكه في المثال.
أقول: هذا صحيح على مسلكنا في معنى حديث «لا ضرر»، لأنّ دليل نفيالحرج ناظر إلى أدلّة الأحكام الأوّليّة وحاكم عليها فيما إذا كانت مستلزمةللحرج، فكما أنّ وجوب الصوم حكم ديني منفيّ بآية «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيالدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» لو كان حرجيّاً فكذلك حرمة الإضرار بالغير أيضاً حكمديني منفيّ بالآية لو كانت حرجيّة، إلاّ أنّ الأوّل حكم إلهي،والثاني حكمنبوي سلطاني، ولكنّ كليهما من الدين والآية نافية للحرج الذي كان منالدين، فهي حاكمة على دليل وجوب الصوم وعلى دليل حرمة الإضراربالغير كليهما.
وأمّا على مسلك القوم من كون «لا ضرر» بمعنى نفي تشريع الأحكامالضرريّة فلا معنى لحكومة دليل الحرج عليه، لأنّ كلاًّ منهما قاعدة ثانويةناظرة إلى أدلّة الأحكام الأوّليّة، إذ دليل «الحرج» إخبار عن نفي الحكمالحرجي، وحديث «الضرر» إخبار عن نفي الحكم الضرري، وحديث«الضرر» متضمّن للحكم الإلهي ـ على مذهبهم ـ كآية «الحرج» فكلاهما في
(صفحه452)
عرض واحد، فلا يمكن حكومة أحدهما على الآخر ونظارته إليه.
وهذا شاهد آخر على استقامة مسلكنا في معنى الحديث دون مسلكالمشهور.
هذا تمام الكلام في قاعدة «لا ضرر» والحمد للّه ربّ العالمين.