ج5
في الشبهة غير المحصورة
التنبيه الرابع: في الشبهة غير المحصورة
وقبل التكلّم حول أصل المسألة ينبغي تقديم أمرين:
الأوّل: أنّ البحث في جريان البراءة أو الاحتياط في الشبهات المحصورة أوغير المحصورة إنّما هو فيما إذا كان الحكم المعلوم بالإجمال مستفادا منالأمارات المعتبرة، كما إذا دلّ الخبر الواحد على وجوب صلاة في ظهر الجمعة،وشكّ في أنّه هل اُريد بها صلاة الظهر أو الجمعة.
وأمّا إذا علمنا إجمالاً بتكليف واقعي قطعي من جميع الجهات، بحيث ليرضى الشارع بعدم امتثاله أصلاً، فلا يجوز الترخيص لا في الشبهة المحصورةولا في الشبهة غير المحصورة، كما تقدّم(1).
الثاني: أنّه لا يصحّ ما فعله بعضهم من الاستدلال على عدم وجوبالاحتياط في الشبهات غير المحصورة بأنّ وجوبه يستلزم العسر والحرج، أوبأنّ المكلّف يضطرّ إلى ارتكاب بعض أطرافها، أو بأنّ كثيرا من أطرافهخارج عن محلّ الابتلاء.
وذلك لأنّ عدم وجوب الاحتياط عند العسر والحرج أو الاضطرار إلىارتكاب بعض الأطراف أو خروج بعضها عن محلّ الابتلاء(2) لا يختصّ
- (1) راجع مبحث الاشتغال ص38.
- (2) هذا مبنيّ على أنّ تأثير العلم الإجمالي مشروط بكون جميع أطرافه محلاًّ للابتلاء كما هو المشهور، وأمّبناء على ما اختاره الاُستاذ المعظّم«مدّ ظلّه» تبعا للإمام الخميني ـ من أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لينافي تأثير العلم الإجمالي في فعليّة التكليف ـ فلا يكاد يكون دليلاً على عدم وجوب الاحتياط فيموارد العلم الإجمالي. م ح ـ ى.
(صفحه112)
بالشبهات غير المحصورة، بل يجري في الشبهات المحصورة أيضاً، مع أنّ البحثهاهنا لابدّ من أن يكون متمركزا في جهة بها تتمايز الشبهتان، بحيث تقتضيعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة وإن وجب في المحصورة.
أدلّة عدم وجوب الاحتياط في المقام
إذا عرفت هذا فاعلم أنّهم ذكروا لإثبات عدم وجوب الاحتياط فيالشبهات غير المحصورة وجوها:
الأوّل: دعوى الإجماع، بل الضرورة.
وفيه أوّلاً: أنّ المنقول من الإجماع والضرورة ليس بحجّة.
وثانيا: أنّه يحتمل أن يكون الإجماع مستندا إلى سائر الأدلّة، فليس دليلأصيلاً مستقلاًّ عنها.
الثاني: الأخبار الدالّة على الترخيص في الشبهات غير المحصورة(1):
منها: صحيحة عبداللّه بن سنان التي تقدّم البحث عنها في الشبهة المحصورة،وهي قوله عليهالسلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرفالحرام منه بعينه فتدعه»(2).
تقريب الاستدلال بها في المقام أنّا وإن ذكرنا احتمالات ثلاثة(3) في جملة«كلّ شيء فيه حلال وحرام»، إلاّ أنّ ظاهر الحديث من كلمة «الشيء» هو م
- (1) ومن أراد الاطّلاع على جميع الأخبار الصالحة للاستدلال في المقام فليراجع حاشية السيّد محمّد كاظمالطباطبائي اليزدي على مكاسب الشيخ رحمهالله ، مبحث جوائز السلطان. منه مدّ ظلّه.
- (2) وسائل الشيعه 17: 87 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
- (3) وهي أن يكون «الشيء» المأخوذ في المغيّى بمعنى الطبيعة والجنس، أو بمعنى مجموع الشيئين الذينأحدهما حلال والآخر حرام، أو يكون له معنى عامّ لهما، فيعمّ «الجنس» و«مجموع الشيئين». م ح ـ ى.
ج5
يشتمل على كلّ من الحلال والحرام بالفعل، لا أنّه شيء محتمل الحلّيّةوالحرمة، فالمراد من هذه الكلمة مجموع الشيئين أو الأشياء، لا الطبيعة،ولا هي مع مجموع الشيئين.
وعلى هذا فتختصّ الصحيحة بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي بكلقسميها من المحصورة وغير المحصورة، لكن جريانها في الشبهات المحصورةيستلزم الترخيص في ارتكاب المعصية بنظر العرف كما تقدّم(1)، فلا بدّ منتخصيصها بهذا الحكم العرفي والقول باختصاصها بالشبهات غير المحصورة،لعدم ورود الإشكال عليها، لاختصاص الحكم العرفي المتقدّم بالشبهاتالمحصورة.
بل إخراج الشبهات غير المحصورة عن تحت الرواية يستلزم صيرورتهبلا مورد، فلابدّ من إبقائها تحتها والقول بدلاتها على عدم وجوبالاحتياط فيها.
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله حول أحاديث «أصالة الحلّيّة»
لكنّ الشيخ الأعظم رحمهالله ناقش في دلالة هذه الرواية وأمثالها بقوله:
إنّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائيّة وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهةالمحصورة، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة الغير المحصورة، فإخراجها عنأحدهما وإدخالها في الآخر ليس جمعا، بل ترجيحا بلا مرجّح(2).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله (3).
- (2) فرائد الاُصول 2: 261.
- (3) وتوضيحه: أنّ كلاًّ من طائفتي «أخبار الحلّ» و«أخبار الاجتناب» تعمّ الشبهات البدويّة والمقرونة بالعلمالإجمالي، محصورة كانت أو غير محصورة، لكنّ الطائفة الاُولى نصّ في الشبهات البدويّة وظاهرة فيكلا قسمي الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، والطائفة الثانية نصّ في الشبهات المحصورة وظاهرة فيالشبهات غير المحصورة والبدويّة، فلابدّ من التمسّك بالطائفة الاُولى في الشبهات البدويّة، وبالطائفةالثانية في الشبهات المحصورة، قضاءً لتقديم النصّ على الظاهر في كلّ منهما، وأمّا الشبهات غيرالمحصورة فحيث إنّ كلتا الطائفتين من الأخبار ظاهرتان فيها فإخراجها عن إحداهما وإدخالها فيالاُخرى ترجيحٌ بلا مرجّح. م ح ـ ى.
(صفحه114)
نقد ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمهالله
وقد ظهر جوابه ممّا تقدّم، حيث عرفت المناقشة في «أخبار الحلّ»سندا ودلالة، والحديث الوحيد السليم منها من حيث السند والدلالة هوصحيحة عبداللّه بن سنان، وقد عرفت عدم شمولها للشبهات البدويّة، فضلعن أن تكون نصّا فيها، بل تختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي،خرج منها الشبهات المحصورة، لكون الترخيص فيها مستلزما للترخيص فيالمعصية عند العقلاء، فلا بدّ من إبقاء الشبهات غير المحصورة تحتها، لئلاّ تبقىبلا مورد.
والحاصل: أنّ الاستدلال بهذه الصحيحة في المقام صحيح خالٍ عنالمناقشة.
ومنها: ما روي عن أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الجبن فقلتله: أخبَرَني مَنْ رأى أنّه يجعل فيه الميتة، فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعلفيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلمفاشتر وبع وكُل، واللّه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمنوالجبن، واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون، هذه البربر وهذه السودان»(1).
فإنّ قوله عليهالسلام : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميعالأرضين؟!» ظاهر في أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام لا يوجب الاجتناب عن
- (1) وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.
ج5
محتملاته.
وكذا قوله عليهالسلام : «واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون» فإنّ الظاهر منه إرادة العلمبعدم تسمية جماعة حين الذبح، كالبربر والسودان.
وفيه: أنّه مخدوش سنداً أوّلاً، ومحمول على التقيّة ثانياً، فإنّ المراد بـ «الميتة»أنفحة الميتة التي يصنع بها الجبن، وهي لا تكون محرّمة على فقه الإماميّة،فلابدّ من حمل الحديث على التقيّة كما تقدّم(1).
وعلى فرض صحّته سنداً وصدوره لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة دلالةً،فهل يدلّ على جواز الارتكاب في ما نحن فيه أم لا؟
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في ذلك
ذهب الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله إلى أنّه لا يرتبط بالشبهات غيرالمحصورة، لأنّ مفاده أنّ جعل الميتة في الجبن في مكان، لا يوجب الاجتنابعن جبن غيره من الأماكن التي لا تجعل فيه الميتة، ولا كلام في ذلك، فإنّالكلام في وجوب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكانالذي تجعل الميتة في الجبن، فلا دخل للحديث بالمدّعى.
وأمّا قوله: «ما أظنّ كلّهم يسمّون» فالمراد منه عدم وجوب الظنّ أو القطعبالحلّيّة، بل يكفي أخذها من سوق المسلمين، بناءً على أنّ السوق أمارةشرعيّة لحلّ الجبن المأخوذ منه ولو من يد مجهول الإسلام، فالحكم بحلّيّةاللحم والسمن والجبن في الفقرة الأخيرة من الرواية مستند إلى سوقالمسلمين، لا إلى كون الشبهة غير محصورة(2).
- (2) فرائد الاُصول 2: 263.