(صفحه16)
لا يتمكّن المكلّف من موافقته القطعيّة.
إن قلت: حكم العقل بالتخيير لا يتوقّف في موارد الدوران بين المحذورينعلى البراءة العقليّة؛ إذ لا طريق للعقل إلاّ الحكم بالتخيير عملاً حتّى فيما إذفرض أنّ المولى يعاقب العبد على مخالفة الوجوب الواقعي أو الحرمة الواقعيّة،فلا فرق في جريان التخيير العقلي بين جريان البراءة العقليّة وعدمه.
قلت: ليس الغرض من أصالة التخيير حكم العقل بتخيّر العبد بين الفعلوالترك ثمّ تهيّأه لتحمّل عقوبة المولى على فرض المخالفة، بل العقل يحكمبتخيّره بينهما مع الاطمئنان بعدم كونه معاقباً على مخالفة الحكم الواقعي، وهذلايحصل إلاّ بعد حكمه بقبح العقاب على مخالفة التكليف المجهول.
وبالجملة: لا يمكن الالتزام بما اختاره الأعلام الثلاثة قدسسرهم (1) من عدم جريانالبراءة العقليّة في موارد الدوران بين المحذورين.
- (1) وهم: المحقّق الخراساني والنائيني والعراقي رحمهمالله .
ج5
(صفحه18)
القول في جريان البراءة النقليّة في المقام
وأمّا البراءة النقليّة: فأدلّتها على نوعين: فإنّ لسان بعضها هو الرفع، مثل«حديث الرفع» ولسان بعضها الآخر هو الإثبات والوضع، مثل «حديثالحلّ» فلابدّ من ملاحظة كلّ منهما مستقلاًّ، فنقول:
أمّا ما يدلّ على الرفع: فالحقّ جريانه في موارد الدوران بين المحذورين،كالبراءة العقليّة، ضرورة أنّ كلاًّ من الوجوب والحرمة ممّا لا يعلم، فيعمّهقوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما لا يعلمون».
وأمّا جنس التكليف فهو وإن كان معلوما، إلاّ أنّه لا أثر لهذا العلمكما تقدّم.
ولا يخفى عليك أنّ عدم تأثير العلم بجنس التكليف ليس لأجل كون نوعهمجهولاً مردّدا بين الوجوب والحرمة، بل لأجل عجز المكلّف عن الموافقةوالمخالفة القطعيّة وقهريّة الموافقة والمخالفة الاحتماليّة، وهذا ناشٍ عن تمركزالوجوب والحرمة في شيءٍ واحد.
ولذا لو شككنا في أنّ هذا الشيء يكون واجبا أو ذلك الشيء الآخر يكونحراما لتنجّز التكليف ووجب على المكلّف الموافقة القطعيّة بفعل الأوّل وتركالثاني.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة ونقده
ج5
لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله أنكر جريان البراءة النقليّة في المقام، كما أنكر جريانالبراءة العقليّة، فإنّه قال:
مدرك البراءة الشرعيّة قوله: «رفع ما لا يعملون» والرفع فرع إمكانالوضع، وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوبوالحرمة كليهما، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير ـ كما تقدّموجهه(1) ـ ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع(2)، إنتهى موضعالحاجة من كلامه رحمهالله .
وفيه: أنّا لانتمسّك بـ «حديث الرفع» مرّة واحدة لأجل رفع الوجوبوالحرمة كليهما كي يرد علينا هذا الإشكال.
بل نتمسّك به مرّتين: مرّة بلحاظ الوجوب وحده الذي هو مجهولعندنا وقابل للوضع والرفع، واُخرى: بلحاظ الحرمة التي هي أيضتكون كذلك.
وبالجملة: كلّ من الوجوب والحرمة مصداق مستقلّ لـ «حديث الرفع»فيرفع به كلّ منهما بنحو الاستقلال، لا كلاهما بنحو الانضمام.
ولو فرضنا عدم صحّة التمسّك بمثل «حديث الرفع» في المقام لما انثلم حكمالعقل بأصالة التخيير، لعدم توقّفه على البراءة النقليّة، بل على البراءة العقليّةالتي قد عرفت جريانها في المقام.
وأمّا ما يدلّ على الإثبات والوضع ويعبّر عنه تارةً: بـ «أصالة الإباحة»واُخرى: بـ «أصالة الحلّيّة»(3) مثل «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه
- (1) راجع فوائد الاُصول 3: 444.
- (2) فوائد الاُصول 3: 448.
- (3) لكنّ الصحيح هو التعبير بـ «أصالة الحلّيّة» لأنّ مدركها هو أحاديث «الحلّ» التي ليس فيها من التعبيربـ «الإباحة» عين ولا أثر، وبين «الإباحة» و«الحلّيّة» فرق واضح، فإنّ «الإباحة» ـ سواء سمّيت حكما أم لا تكون في مقابل الأحكام الأربعة الاُخرى ولا تجتمع مع واحدة منها، بخلاف «الحلّيّة» فإنّها تكون فيمقابل الحرمة فقط، ويمكن أن تجتمع مع كلّ واحد من الوجوب والاستحباب والكراهة، فلابدّ منتسمية ما يستفاد من «حديث الحلّ» بـ «أصالة الحلّيّة» لا بـ «أصالة الإباحة». منه مدّ ظلّه.
(صفحه20)
حرام»(1) فأنكر المحقّق النائيني رحمهالله جريانه أيضاً(2) في المقام، واستدلّ على ذلكبوجوه:
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
فإنّه قال:
أمّا «أصالة الإباحة» ـ فمضافا إلى عدم شمول دليلها لصورة دوران الأمربين المحذورين، فإنّه يختصّ بما إذا كان طرف الحرمة الإباحة والحلّ، كما هوالظاهر من قوله عليهالسلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال»(3) وليس فيباب دوران الأمر بين المحذورين احتمال الإباحة والحلّ، بل طرف الوجوب(4)،ومضافا إلى ما تقدّم: من أنّ دليل أصالة الحلّ يختصّ بالشبهات الموضوعيّةولا يعمّ الشبهات الحكميّة ـ أنّ جعل الإباحة الظاهريّة مع العلم بجنس الإلزاملايمكن، فإنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال، لأنّ مفادأصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك، وذلك يناقض العلم بالإلزام وإنلم يكن لهذا العلم أثرٌ عملي، وكان وجوده كعدمه لا يقتضي التنجيز، إلاّ أنّالعلم بثبوت الإلزام المولوي حاصل بالوجدان، وهذا العلم لا يجتمع مع جعلالإباحة ولو ظاهرا، فإنّ الحكم الظاهري إنّما يكون في مورد الجهل بالحكمالواقعي، فمع العلم به وجدانا لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله
- (1) وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4. وفيه «حتّى تعلم أنّهحرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك». الحديث. م ح ـ ى.
- (2) كما أنكر جريان مثل «حديث الرفع». م ح ـ ى.
- (3) وسائل الشيعة 17: 87 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
- (4) لا تخلو العبارة من إشكال، والصحيح أن يُقال: «بل طرفاه هما الوجوب والحرمة». م ح ـ ى.