ج5
يجدي عدم حرمة الترك باستناد إنكار الملازمة.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ البراءة لا تجري في الأسباب والمحصّلاتإجمالاً في مقابل القائل بالجريان مطلقاً.
لكن قد عرفت أنّ هاهنا تفصيلين ينبغي البحث حولهما أيضاً:
التفصيل بين كون العلم الإجمالي علّة تامّة وبين كونه مقتضياً
الأوّل: جريان الاشتغال لو قلنا بكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوبالاحتياط، والبراءة لو قلنا بكونه مقتضياً له.
لكنّ التحقيق أنّ التقريب الذي ذكرناه لوجوب الاحتياط لا فرق فيه بينكون العلم الإجمالي علّة تامّة له وبين كونه مقتضياً، لأنّ المقتضي يكون مؤثّرما لم يمنع من تأثيره مانع، ولا يوجد ما يصلح للمانعيّة في المقام.
التفصيل بين كون السبب عاديّاً أو عقليّاً وبين كونه شرعيّاً
الثاني: ما نقله المحقّق النائيني «أعلى اللّه مقامه» وأجاب عنه(1)، وهو أنّالسبب إن كان عقليّاً أو عاديّاً يجب الاحتياط، وإن كان شرعيّاً تجري البراءة،لأنّ بيان الأسباب الشرعيّة كمسبّباتها وظيفة الشارع، فلو ترك المكلّف مشكّ في دخله في تأثير السبب فلم يتحقّق المأمور به لا يجوز للشارع عقابه،لأنّه عقاب بلا بيان، والعقل يحكم بقبحه.
والتحقيق أنّ هذا التفصيل أيضاً غير صحيح، ولا تجري البراءة وإن كانالسبب شرعيّاً.
والجواب عمّا ذكر في كلام هذا المفصّل يتوقّف على توضيح الأسباب
- (1) راجع فوائد الاُصول 4: 144 وما بعدها.
(صفحه216)
الشرعيّة، فنقول:
الأسباب الشرعيّة على قسمين:
الأوّل: ما كان سبباً عقلائيّاً قد أمضاه الشارع مع تصرّف جزئي يوجبتضييقه أو توسعته، كسببيّة البيع للملكيّة، فإنّه سبب عند العقلاء قبل الشرع،والشارع أمضاه بقوله: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»(1) بناءً على كون «الإحلال» في الآيةبمعنى الإمضاء.
الثاني: ما لم يكن سبباً عقلائيّاً، بل الشارع أسّسه وأحدثه، كسببيّةالوضوء والغسل للطهارة بناءً على كون الطهارة أمراً معنويّاً مسبّباً عنهما، لأنّها نفسهما، فإنّه لم يكن لهما عند العرف عين ولا أثر، سيّما مسح الرأسوالقدمين في الوضوء، وإنّما الشارع جعل الطهارة شرطاً للصلاة وجعل سببهالوضوء والغسل.
أمّا القسم الأوّل: فإذا شككنا مثلاً في اعتبار العربيّة في البيع فلا مجال للقولبأنّها لو كانت معتبرة شرعاً وتركها المكلّف فلم يتحقّق الملكيّة لم يجز للشارعمؤاخذته بدعوى كونها عقاباً بلا بيان، لأنّ الشارع أمر بالمسبّب وهو التمليك،وهو لا يكون مردّداً بين الأقلّ والأكثر، بل الترديد في سببه، فإنّ المكلّفيشكّ في تحقّق المأمور به لو ترك العربيّة، ويعلم بتحقّقه لو أتى بها، فلابدّ له منرعايتها حتّى أحرز الفراغ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.
وكذا القسم الثاني، لأنّ الشارع أمر بالطهارة مثلاً، فإن شككنا في أنّالترتيب بين اليمين واليسار شرط في تأثير الغسل الترتيبي في حصولها أم لا؟لكنّا علمنا بتحقّق الطهارة عند رعاية الترتيب وشككنا في تحقّقها عند عدمرعايته، فالعقل يحكم بلزوم رعاية الترتيب لإحراز حصول الطهارة المأمور
ج5
بها.
فثبت أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات يكون مجرىالاشتغال مطلقاً، سواء قلنا بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة أوباقتضائه، وسواء كان السبب عقليّاً أو عاديّاً أو شرعيّاً، وسواء كان السببالشرعي إمضائيّاً أو تأسيسيّاً.
وأيضاً ثبت أنّ التفصيل الذي اختاره المحقّق العراقي رحمهالله لم يكن صحيحاً، لأنّالعنوان البسيط الذي يكون متدرّج الحصول إن كان المرتبة المأمور بها منهمعلومة فهي دفعيّة الحصول، وإن كانت مجهولة كان خارجاً عن محلّ النزاع كمحقّقناه، فالدوران بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات يكون مجرىالاشتغال مطلقاً بحكم العقل.
المقام الثاني: في البراءة الشرعيّة
وأمّا البراءة الشرعيّة: فربما يتوهّم أنّه لا مانع من جريانها فيما إذا كانالسبب شرعيّاً، لأنّ الشكّ في تحقّق المسبّب وعدمه ناشٍ من الشكّ في اعتبارالمشكوك في السبب وعدمه، فإذا اغتسل المكلّف بدون رعاية الترتيب بيناليمين واليسار يشكّ في حصول الطهارة، وهذا الشكّ مسبّب عن الشكّ فياعتبار الترتيب في الغسل وعدمه، وحيث إنّ السببيّة مجعولة شرعاً فحديثالرفع يرفع اعتبار المشكوك، فيرتفع الشكّ في ناحية المسبّب، لأنّ المسبّبيتحقّق بتحقّق السبب قطعاً.
وفيه: أنّه أصل مثبت، وتوضيحه يتوقّف على ذكر أمرين:
أ ـ أنّ العقل يحكم بأنّ المسبّب يوجد بوجود السبب مطلقاً، أي سواء كانالسبب عقليّاً أو عاديّاً أو شرعيّاً.
(صفحه218)
ب ـ أنّه يحكم بأنّ المسبّب لا يوجد إلاّ بوجود تمام السبب مطلقاً أيضاً.
وحديث الرفع وإن كان يرفع اعتبار المشكوك في السبب، إلاّ أنّ عدماعتباره فيه لا يكفي لإثبات حصول المسبّب بالأقلّ، بل لابدّ من إثبات كونالأقلّ تمام السبب، والحديث لا يثبت ذلك.
هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات،واتّضح من جميع ما ذكرناه أنّ البراءة لا تجري فيه أصلاً.
ج5