ج5
لا ريب في أنّ الشيء الذي يدور أمره بين الوجوب والحرمة لم يكن قبلتعلّق التكليف به واجبا ولا حراما، فهل يجري استصحاب عدم كلّ منهمأم لا؟
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
قال المحقّق النائيني رحمهالله : لا، لأنّ الاستصحاب لمّا كان من الاُصول المتكفّلةللتنزيل(1) ـ كما سيأتي بيانه في محلّه ـ فلايمكن الجمع بين مؤدّاه والعلمالإجمالي، فإنّ البناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمته واقعا ـ كما هو مفادالاستصحابين ـ لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته، وسيأتي في محلّهأنّ الاُصول التنزيليّة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا، سواء لزم منهالمخالفة القطعيّة أو لم تلزم.
وإن شئت قلت: إنّ البناء على مؤدّى الاستصحابين ينافي الموافقةالالتزاميّة؛ فإنّ التديّن والتصديق بأنّ للّه تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميّاً،إمّا الوجوب أو الحرمة، لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمةواقعا(2)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
وفيه: أنّه مبنيّ على كون الاستصحاب أصلاً تنزيليّا أوّلاً، ولزوم الموافقةالالتزاميّة للتكاليف ثانيا، ويمكن المناقشة في كلا المبنيين.
أمّا عدم كونه أصلاً تنزيليّا: فلأنّ مدركه هو الأخبار التي مفاده
- (1) مراده من «الاُصول التنزيليّة» ما كان مفاده لزوم البناء على مؤدّاه. منه مدّ ظلّه.
- (2) فوائد الاُصول 3: 449.
(صفحه24)
«لاتنقض اليقين بالشكّ»، ولا ريب في عدم اقتضاء هذا المعنى لزوم البناء علىبقاء الحالة السابقة واقعا، بل هو يدلّ على وظيفة عمليّة ظاهريّة على طبقهفقط.
نعم، قال عليهالسلام في بعض الأخبار الواردة في مورد الشكّ بين الثلاث والأربع:«قام فأضاف إليها اُخرى، فيبني عليه»(1).
لكنّ الظاهر منه عند العرف هو البناء العملي، لا البناء على تحقّق الحالةالسابقة في الزمن اللاحق، ولابدّ من حمل الروايات على معانيها العرفيّة.
وأمّا عدم لزوم الموافقة الالتزاميّة: فلما تقدّم في مبحث القطع من عدم لزومالاعتقاد القلبي على طبق التكاليف، بل يكفي موافقتها العمليّة.
والحاصل: أنّ الاستصحاب لا يقتضي إلاّ وظيفة عمليّة ظاهريّة أوّلاً، وليجب الموافقة الالتزاميّة للتكاليف المعلومة بالإجمال ثانيا، وحيث إنّه لايمكنالموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ولا مخالفته القطعيّة في المقام فلا أثر له،كما تقدّم(2)، فلامنافاة بين العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي المردّد بين وجوبشيء وحرمته وبين استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة كليهما، فإنّ العلمناظر إلى الحكم الواقعي، والاستصحاب يعيّن الوظيفة الظاهريّة، وما به يوجّهالجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في سائر الموارد(3) فهو وجه الجمع بينهمفي المقام.
الحقّ في المسألة
- (1) وسائل الشيعة 8 : 217، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.والاُستاذ«مدّ ظلّه» لخّص الحديث بحذف بعض الفقرات من وسطه. م ح ـ ى.
- (3) كالشبهات البدويّة. م ح ـ ى.
ج5
لكنّهم اختلفوا في وجه عدم جريان الاُصول في موارد العلم الإجمالي علىقولين:
1ـ أنّ جريانها يستلزم المخالفة القطعيّة العمليّة.
فعلى هذا يختصّ المنع بموارد استلزامها(1)، بخلاف ما إذا لم يمكن المخالفةالقطعيّة، كما في المقام.
2ـ أنّه يستلزم التناقض في أدلّة الاُصول.
توضيح ذلك: أنّ قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقينآخر»(2) بصدره يقتضي استصحاب عدم كلّ من الوجوب والحرمة في المقام،وبذيله يقتضي عدم جريان أحد الاستصحابين، للعلم بتبدّل عدم أحدالحكمين إلى الوجود، فيعمّه قوله عليهالسلام : «وإنّما تنقضه بيقين آخر» فالحكمبجريان كلا الاستصحابين بمقتضى الصدر، وبعدم جريان أحدهما بمقتضىالذيل، تناقض واضح.
فلابدّ من القول بعدم شمول الاُصول العمليّة لموارد العلم الإجمالي،سواء كان من قبيل الدوران بين المحذورين كما في المقام، أو من قبيلسائر الموارد.
هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى التي هي القدر المتيقّن من محلّ النزاع فيأصالة التخيير، وهي ما إذا دار الأمر بين وجوب الشيء وحرمته ولم يكنأحدهما أهمّ من الآخر.
الصورة الثانية: أن يتمركز الوجوب والحرمة في شيء واحد ـ كالصورةالسابقة ـ لكن كان أحدهما المعيّن أرجح من الآخر قطعا أو احتمالاً:
- (1) كالعلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة، أو بوجوب هذا الشيء أو حرمة ذلك الشيء الآخر.م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
(صفحه26)
فإن كان الرجحان قويّا بحيث لو كان ذو الرجحان مشتبها بالشبهة البدويّةلما جرت أصالة البراءة ـ كما إذا كانت المرأة الفلانيّة مردّدة بين الاُمّ والزوجة،فلاتجري البراءة من حرمة وطئها، لقوّة الرجحان الذي في جانب الحرمة فلاتجري أصالة التخيير أيضاً فيما إذا دار الأمر بين المحذورين، كما إذا كانتالزوجة في المثال محلوفا على وطئها، بل لابدّ من رعاية جانب الحرمة، لأنّوطئ الزوجة وإن كان واجبا حينئذٍ، إلاّ أنّ حرمة وطئ الاُمّ ذات أهمّيّة قويّةتمنع من جريان أصالة التخيير، كما كانت تمنع من جريان أصالة البراءة فيالشبهات البدويّة.
وأمّا إذا كان في البين رجحان في الجملة، ولكن لا بحيث يوجب رعاية ذيالمزيّة ويمنع من جريان البراءة في الشبهات البدويّة فهل يمكن التمسّك بأصالةالتخيير أم لا؟
كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المسألة ونقده
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : لا، لأنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيينوالتخيير، فلابدّ من رعاية محتمل التعيين، لأنّ المكلّف عند رعايته يقطعببراءة ذمّته، دون ما إذا أخذ بما يقابله، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءةاليقينيّة(1).
وفيه: أنّ ما نحن فيه ليس من مصاديق الدوران بين التعيين والتخيير، لأنّالدوران بينهما يختصّ بما إذا كان لنا تكليف منجّز معلوم، لكن كان متعلّقهمردّدا بين التعيين في شيء وبين التخيير بينه وبين شيء آخر(2).
- (2) كما إذا علمنا بوجوب صلاةٍ يوم الجمعة، لكن شككنا في أنّها متعيّنة في الظهر، أو مخيّرة بينها وبينالجمعة. م ح ـ ى.
ج5
والمقام ليس كذلك، ضرورة أنّه ليس لنا تكليف منجّز معلوم، لما عرفت(1)من أنّ العلم الإجمالي تعلّق بتكليف إلزامي مردّد بين الوجوب والحرمة، وليمكن أن يتنجّز به ذلك التكليف الكلّي، لعدم قدرة المكلّف على موافقته أومخالفته قطعا، وأنّ الموافقة والمخالفة الاحتماليّة أمرٌ قهري، سواء كان العلمالإجمالي أو لم يكن.
وبالجملة: لا يجب رعاية ذي المزيّة في هذا القسم من الصورة الثانية، بلتجري فيه أصالة التخيير.
الصورة الثالثة: ما إذا كان الدوران بين المحذورين في وقايع متعدّدة، كما إذشككنا في وجوب صلاة الجمعة وحرمتها في كلّ جمعة.
ولا ريب في جريان التخيير في الواقعة الاُولى، إذ لا فرق في ذلك بين ملايقبل التكرار وبين الواقعة الاُولى ممّا يقبله، كما هو واضح لا يخفى.
إنّما الإشكال والكلام في أنّ التخيير هل يكون استمراريّا، فيجري في سائرالوقايع أيضاً، أو بدويّاً، فيجب دائما الأخذ بما اختاره من الفعل والترك فيالواقعة الاُولى؟
ولا يخفى عليك أنّه يتولّد من العلم الإجمالي في هذه الصورة علمانإجماليّان آخران متلازمان، لأنّا إذا علمنا بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها،علمنا أيضاً بأنّ صلاة الجمعة إمّا تجب في هذا الاُسبوع أو تحرم في الاُسبوعالآتي، وعلمنا أيضاً بأنّها إمّا تحرم في هذا الاُسبوع أو تجب في الاُسبوعالآتي، ولاريب في أنّ كلاًّ من العلمين الأخيرين يمكن موافقته ومخالفتهالقطعيّة، لكنّ الموافقة القطعيّة لكلّ منهما عين المخالفة القطعيّة للآخر،