في غير دوران الأمر بين المحذورين، وكلّ طرف بالخصوص مجهول الحكم،فالموضوع للترخيص الظاهري محفوظ في كلّ واحد من الأطراف، وليس فيهجهة إحراز وتنزيل للواقع المشكوك فيه حتّى يضادّ الإحراز التعبّدي في كلّطرف للإحراز الوجداني بالخلاف في أحد الأطراف، فينحصر المانع بالمخالفةالعمليّة للتكليف المعلوم بالإجمال.
ودعوى أنّه لا مانع من الترخيص الظاهري في المخالفة العمليّة واضحةالفساد، فإنّ المخالفة العمليّة ممّا لا يمكن أن تنالها يد الإذن والترخيص، لأنّهعبارة عن المعصية، ولا يعقل الإذن في المعصية، لاستقلال العقل بقبح المعصية،كاستقلاله بحسن الطاعة وليست من المجعولات الشرعيّة.
إمّا لانتفاء الموضوع، وينحصر ذلك في أصالة الإباحة عند دوران الأمربين المحذورين.
وإمّا لقصور المجعول عن شموله للأطراف كما في الاُصول التنزيليّة، سواءكانت نافية للتكليف المعلوم بالإجمال أو مثبتةً له.
وإمّا لعدم إمكان تطبيق العمل على المؤدّى كما في الاُصول الغير التنزيليّةالنافية للتكليف المعلوم بالإجمال، كأصالة الإباحة والبراءة عند العلم بوجوبأحد الشيئين.
وأمّا إذا كانت مثبتةً للتكليف المعلوم فلا مانع من جريانها، كما في أصالةالحرمة في باب الدماء والفروج والأموال عند العلم بحرمة إراقة دم أحدالشخصين أو حرمة إحدى المرأتين أو المالين وحلّيّة الآخر، فإنّ أصالةالحرمة في كل من الشخصين والمرأتين والمالين تجري من دون أن يلزم منه
مخالفة عمليّة، لأنّ مؤدّاها موافق للمعلوم بالإجمال(1).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله بطوله.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويرد عليه أوّلاً: أنّ تقسيم الاُصول إلى التنزيليّة وغيرها غير صحيح، إذ لفرق بين المجعول في دليل أصالة الطهارة مثلاً وبين المجعول في دليلالاستصحاب.
توضيح ذلك: أنّ قوله عليهالسلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»(2) يدلّعلى أنّ للمكلّف أن يعامل مع الشيء المشكوك الطهارة والنجاسة معاملةالشيء الطاهر في مقام العمل، فيجوز له استعماله في مشروط الطهارة.
وقوله عليهالسلام : «لاتنقض اليقين أبداً بالشكّ»(3) أيضاً يفيد نحو هذا المعنى، فإنّالعرف الذي هو الحاكم في تعيين معاني الأخبار يقضي بأنّ معناه هو لزومترتيب آثار اليقين السابق عملاً في زمان الشكّ، فالشارع المقدّس مع لحاظوجود الشكّ يحكم بعدم الاعتناء به في مقام العمل، وأين هذا من تنزيل الشكّمنزلة اليقين وإلغاء احتمال الخلاف وكون الشاكّ متيقّنا في عالم التشريع؟!
بل الذي هو مقدور المكلّف ويمكن أن يتعلّق به التكليف هو العمل، لالشكّ واليقين كما لا يخفى.
فأخبار الاستصحاب أيضاً في مقام جعل حكم ظاهري في مقام العمل، فلفرق بينه وبين سائر الاُصول من هذه الجهة.
وثانيا: سلّمنا أنّ الاستصحاب أصل تنزيلي، لكنّه لا يقتضي عدم جريانه
- (2) وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.
- (3) وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
ج5
في أطراف العلم الإجمالي، فلا مانع من جريان استصحاب طهارة كلا الإنائينبعد العلم بصيرورة أحدهما نجسا.
ولا يصغى إلى ما ادّعاه هذا المحقّق الكبير من أنّ «الإحراز التعبّدي ليجتمع الإحراز الوجداني بالخلاف».
بل يمكن الجمع بين التعبّد وبين العلم التفصيلي بالخلاف، فضلاً عنالإجمالي، ألا ترى أنّه لامنع من أن يحكم الشارع بكون المرتدّ الذي أحدأبويه مسلم(1) ميّتا في عالم التشريع، فيقسّم أمواله بين ورثته وتتزوّج زوجتهبعد انقضاء عدّتها، مع أنّا نراه حيّا يمشي في الأسواق، وهل هذا إلاّ التعبّد علىخلاف الإحراز الوجداني التفصيلي؟
والحاصل: أنّ جريان الاستصحاب في جميع أطراف العلم الإجمالي غيرممتنع، ولو قلنا بكونه أصلاً محرزا.
لا يقال: بناءً على كون مثل الاستصحاب أصلاً محرزا فلا فرق بينه وبينالأمارات، فإنّ الأمارات كما نزّلت منزلة القطع في جوّ الشرع، نزّلالاستصحاب أيضاً منزلته، فكان الأصل التنزيلي باصطلاح المحقّق النائيني رحمهالله أمارةً لا أصلاً.
فإنّه يقال: بينهما بونٌ بعيد، فإنّ الأمارات بنفسها كاشفة عن الواقع، بخلافالاُصول المحرزة التي لا طريقيّة لها إلى الواقع أصلاً، غاية الأمر نزّل الشارعمؤدّاها منزلة الواقع تعبّدا، من دون أن يكون لأنفسها نظر إلى الواقع.
فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ المحقّق النائيني رحمهالله ذهب إلى عدم جريان الاُصولالمحرزة في أطراف العلم الإجمالي أصلاً، وكذلك الاُصول غير المحرزة فيما إذاستلزم جريانها مخالفة عمليّة، بخلاف ما إذا لم يستلزم ذلك، وقد عرفت م
- (1) وهو الذي يعبّر عنه بـ «المرتدّ الفطري». م ح ـ ى.