(صفحه352)
الانحلال مطلقاً، سواء تعلّق العلم الإجمالي بالعنوان أو بغيره، ولذا قلنبالانحلال في كلا المثالين المتقدِّمين في كلام هذا المحقّق الكبير: وهما ما إذا تعلّقالعلم الإجمالي بأنّ في هذا القطيع من الغنم موطوءً وتردّد بين كونه عشرة أوعشرين، وما إذا تعلّق بموطوئيّة البيض من هذا القطيع، وتردّدت البيض بينكونها عشراً أو عشرين.
لكن قد عرفت أنّ الجواب المختار من أصل الدليل، هو أنّ مسألة العلمالإجمالي لا ترتبط بالمقام أصلاً، لأنّا نبحث في شرائط جريان أصالة البراءةالتي مجراها هو الشكّ في التكليف، والعلم الإجمالي يرتبط بالشكّ في المكلّف بهالذي يجري فيه الاشتغال.
هذا تمام الكلام في الدليل العقلي على وجوب الفحص، وقد قرّرناه بوجهمقبول في بداية البحث، وإن كان الوجهان الأخيران ـ وهما مسألة الظلم علىالمولى، ومسألة العلم الإجمالي ـ غير مقبولين، كما عرفت.
البحث حول قيام الإجماع على وجوب الفحص
وأمّا الإجماع: فهو اتّفاق جميع العلماء على عدم جواز التمسّك بالبراءةالعقليّة قبل الفحص.
لكن يرد عليه أوّلاً: أنّ بيان حدود المسائل العقليّة وضوابطها إنّما هو بيدالعقل، ولا مجال للأدلّة التعبّديّة فيها، فلو فرض دلالة العقل على «قبح العقاببلا بيان» حتّى قبل الفحص، فلا يمكن ردّه لأجل مثل الإجماع. ألا ترى أنّهيجب تأويل قوله تعالى: «وَجَاءَ رَبُّكَ»(1)، لأجل حكم العقل بعدم تجسّمهتعالى وما يلزم منه؟
ج5
وثانياً: أنّ الإجماع لا يكون دليلاً مستقلاًّ فيما إذا كان مدركه معلوماً أومحتملاً، كما فيما نحن فيه، فإنّا نحتمل قويّاً أن يكون مستند المجمعين ما اخترناهلإثبات وجوب الفحص، وهو عدم جريان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبلالفحص بالتقريب الذي تقدّم منّا(1).
البحث حول دلالة الآيات والروايات على وجوب الفحص
وأمّا الكتاب والسنّة: فالحقّ هو دلالة بعض الآيات والروايات علىوجوب التفقّه والتتبّع والتعلّم.
لكن يحتمل قويّاً أن تكون إرشاداً إلى حكم العقل، لا حكماً تعبّديّبتأسيس الشارع، فإنّ العقل يستقلّ بالحكم بلزوم التفقّه في الدين وتعلّمأحكام المولى الواقعي.
وبالجملة: لا يبعد أن يكون هذا النوع من الآيات والروايات تأكيداً لحكمالعقل، وإرشاداً إليه، مثل قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ»(2)، حيث إنّ العقل يحكمبوجوب إطاعة اللّه تعالى، وهذه الآية الشريفة تكون إرشاداً إلى حكمه.
وتلخّص من جميع ما تقدّم أنّ جريان البراءة العقليّة في الشبهات الحكميّةيتوقّف على وجوب الفحص، ولا يدلّ عليه إلاّ دليل واحد، وهو أنّ العقل ليحكم قبل الفحص بـ «قبح العقاب بلا بيان»، وهذا دليل قويّ لا يمكنالمناقشة فيه.
مقدار الفحص اللازم لإجراء البراءة
(صفحه354)
ثمّ لا يخفى عليك أنّه لا يجب في كلّ مسألة تتبّع جميع الأبواب الفقهيّة فيجميع المجاميع الروائيّة الشيعيّة والسنّيّة، بل حيث دوّن أحاديث كلّ مسألة فيباب متناسب لها، سيّما في مثل وسائل الشيعة من المجاميع الجديدة، يكفيالرجوع في كلّ مسألة إلى مظانّ وجود حكمها، فإذا شككنا في حكم منأحكام السرقة مثلاً يكفي الفحص في خصوص أبوابها، ولا يجب الرجوع إلىمثل أبواب الطهارة، وإن احتملنا أن يكون فيها حديث مربوط بالسرقةوصلنا إليه لو رجعنا إليها.
وبعبارة اُخرى: إنّ العقل وإن حكم باشتراط جريان قاعدة «قبحالعقاب بلا بيان» بالفحص عن الدليل، إلاّ أنّ هذا العقل نفسه يحكمبتحقّق هذا الشرط بصرف التتبّع في مظانّ الحكم الذي نحن بصدده،فإن لم نجده فيها يحكم العقل بالبراءة من دون أن يلزمنا بالفحص فيسائر الأبواب.
ولا يذهب عليك أنّا لا ننكر أن توجد أحياناً رواية في بابمن أبواب الفقه مربوطة بباب آخر أيضاً، لكنّه فرض نادر التحقّقوعلى خلاف القاعدة، فلا يلزمنا العقل بسبب هذا الاحتمال الضعيف علىالفحص في جميع كتاب الوسائل مثلاً من أوّله إلى آخره، بل يحكمبـ «قبح العقاب بلا بيان» بمجرّد الفحص في مظانّ وجود حكم المسألة وعدموجدانه فيها.
ما هو متعلّق العقاب عند عدم الفحص؟
إذا ثبت توقّف جريان البراءة العقليّة على لزوم الرجوع إلى مظانّ وجودالحكم الواقعي فلو تخلّف المكلّف عن ذلك فلا إشكال في استحقاقه العقوبة،
ج5
لعدم حكم العقل بقبح العقاب حينئذٍ، فيستحقّ العقوبة إذا فعل محتمل الحرمةأو ترك محتمل الوجوب.
إنّما الإشكال في أنّ استحقاق العقاب بأيّ شيء يتعلّق؟ فيه احتمالات، بلأقوال ثلاثة:
أ ـ أن يكون استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع.
ب ـ أن يكون في قبال ترك الفحص الذي كان واجباً عقلاً، ولا ربط لهبالواقع.
ج ـ أن يكون لأجل ترك الفحص والتعلّم، لكن لا مطلقاً، بل فيما إذا كانترك الفحص مؤدّياً إلى مخالفة الواقع، فهذا الاحتمال الثالث تلفيق بين الاحتمالالأوّل والثاني.
بيان ما هو الحقّ في المسألة
والحقّ هو القول الأوّل، لأنّ لزوم الفحص ليس وجوباً نفسيّاً، بل وجوبمقدّمي، لأجل درك الأحكام الواقعيّة، ولذا لو سألنا العقل: لِمَ ألزمت علينالفحص؟ لقال: لأجل كونه طريقاً إلى الواقع، ولا تصحّ العقوبة على ترك أمرمقدّمي طريقي. فلو شكّ المكلّف في حرمة شرب التتن وكان في مثل كتاب«وسائل الشيعة» رواية دالّة على حرمته، لكنّه شربه من دون أن يرجع إلىهذا الكتاب، لاستحقّ العقوبة على ارتكاب الحرام الواقعي.
وأمّا القول الثاني: فمستنده بعض الأخبار التي سيأتي البحث عنها(1).
وأمّا القول الثالث: فاستدلّ عليه بوجه ضعيف جدّاً.
وهو أنّه لا يمكن عقاب المكلّف على صرف ترك الفحص، لأنّه أمر طريقي
(صفحه356)
مقدّمي لا يليق أن يعاقبه المولى لذلك، ولا على صرف مخالفة الواقع، لأنّالحكم الواقعي أمرٌ مجهول للمكلّف، ولا يمكن عقوبته على مخالفة واقعيّةمجهولة، فإذا لم يصلح واحد منهما أن يكون ملاكاً مستقلاًّ لاستحقاق العقوبة،فلابدّ من التلفيق بينهما، وهو أن يكون استحقاق العقوبة على ترك الفحص،لكن بشرط كونه مؤدّياً إلى مخالفة الواقع.
وفيه أوّلاً: أنّه لا يمكن أن يتولّد أمر ثبوتي من أمرين عدميّين، فلو لم يصلحترك الفحص ولا مخالفة الواقع لأن يستند استحقاق العقوبة إليه عند الانفراد،فكيف يمكن استناده إليهما عند الانضمام؟!
وثانياً: أنّ الجهل بالواقع بما هو جهل لا يمنع من استحقاق العقوبة، بل الذييمنع عنه في مورد الجهل هو قاعدة «قبح العقاب بلا بيان»(1) وقد عرفت أنّجريان هذه القاعدة يختصّ بما بعد الفحص، فلا يكون صرف الجهل رادععن استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع فيما إذا صدرت بدون الفحص عنالدليل، كما هو المفروض.
ولو كان صرف الجهل بالواقع مانعاً عن تنجّز التكليف واستحقاق العقوبةعلى مخالفته ـ سواء جرت البراءة أو لم تجر ـ لكانت المباحث الطويلة الذيلحول البراءة في الكتب الاُصوليّة لغواً.
والحاصل: أنّ المكلّف لو تمسّك بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» بدونالفحص عن الدليل لكان مستحقّاً للعقوبة على مخالفة الحكم الواقعي، لا علىترك الفحص مطلقاً، أو بشرط كونه مؤدّياً إلى المخالفة.
صور مخالفة الواقع، وما هو موجب لاستحقاق العقوبة منه
- (1) وكذلك أدلّة البراءة الشرعيّة، لكنّ البحث فعلاً إنّما هو في البراءة العقليّة. منه مدّ ظلّه.