(صفحه90)
توضيحه: أنّ متعلّق التكليف عند الاضطرار إلى الواحد المعيّن يحتمل أنيكون عين ما تعلّق به الاضطرار، ومع هذا الاحتمال لا يبقى علم بالتكليفالمنجّز الصالح للاحتجاج، بل الأمر يدور بين التكليف الصالح له وغير الصالحله، ومرجع ذلك إلى الشكّ في التكليف.
وأمّا المقام: فالمفروض أنّ الاضطرار لم يتعلّق بواحد معيّن حتّى يكونمضطرّا في ارتكابه ولا يمكن له العدول إلى غيره، وإن فرضنا انكشاف الواقع،بل متعلّق الاضطرار إنّما هو أحد الإنائين، بحيث لو كشف الواقع عليه يجبالعدول إلى غير المحرّم، لكون الآخر غير المحرّم يندفع به الاضطرار بلا محذور،وعليه فمتعلّق الاضطرار في نفس الأمر غير ما تعلّق به التكليف، وهذا بخلافالاضطرار إلى المعيّن.
وبالجملة: ما هو متعلّق التكليف غير ما اضطرّ إليه، وإن كان ربما ينطبقعليه، إلاّ أنّه من آثار الجهل لا الاضطرار، بحيث لو ارتفع الجهل لما وقع فيارتكابه أصلاً، وهذا بخلاف الاضطرار إلى المعيّن، إذ لو تبيّن كونه خمرا لما كانله مناص عن ارتكابه.
وعليه فلابدّ من التفكيك أي تفكيك ما هو من لوازم الجهل، وما هو منلوازم الاضطرار، فشرب الخمر عند الاضطرار إلى الواحد المعيّن لو صادفالمحرّم من آثار الاضطرار إليه، كما أنّ شربها عند الاضطرار إلى غير المعيّن منآثار الجهل، لإمكان دفعه بالإناء الآخر.
وبما ذكرنا يندفع ما ربما يقال من أنّه لو اختار ما هو الخمر واقعا مع الجهلكشف ذلك عن كون متعلّق الاضطرار في نفس الأمر هو متعلّق الحرمة.
وجه الاندفاع: أنّ ما ذكر راجع إلى مقام الامتثال، واختيار ما هو الخمرواقعا لا يوجب تعلّق الاضطرار به واقعا وقد عرفت أنّ متعلّقه إنّما هو
ج5
أحدهما لا بعينه.
والحاصل: أنّه لا أثر للعلم الإجمالي في قسمين من موارد الاضطرارإلىبعض معيّن من أطرافه:
أ ـ ما إذا تحقّق الاضطرار قبل التكليف.
ب ـ ما إذا تحقّق بعد التكليف، لكن قبل العلم به.
وفي القسم الثالث منها ـ وهو ما إذا كان الاضطرار بعد تعلّق التكليفوالعلم به ـ وكذلك في جميع أقسام الاضطرار إلى غير المعيّن يجب الموافقةالاحتماليّة برعاية التكليف في غير ما به رفع الاضطرار.
نظريّة صاحب الكفاية رحمهالله في ذلك
لكنّ المحقّق الخراساني رحمهالله ذهب في كفايته إلى أنّ الاضطرار مانع من تأثيرالعلم الإجمالي في تنجّز التكليف مطلقا: سواء كان الاضطرار إلى معيّن أو غيرمعيّن، وسواء تحقّق الاضطرار قبل تعلّق التكليف أو بعده وقبل العلم به، أوبعده(1).
(صفحه92)
في خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء
التنبيه الثالث: في خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء
المعروف بين المتأخِّرين أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي تتوقّف على ابتلاءالمكلّف بجميع أطرافه، فلو علم بخمريّة هذا الإناء أو الإناء الكائن في بعضالبلاد النائية الذي لا يقدر على التصرّف فيه عادةً، فلا أثر لهذا العلم، فلا يجبعليه الاجتناب عن الإناء المبتلى به.
واستدلّوا عليه بأنّ إرادة العقلاء كما يتوقّف على مبادٍ، منها: التصديقبالفائدة، كذلك الأمر في إرادة الشارع، فلا يصدر منه تكليف إلاّ فيما إذا كانمشتملا على فائدة، وفائدة التكاليف نوعا(1) هي الانبعاث والانزجار عقيبالبعث والزجر، ولا يخفى أنّ تحقّق الانبعاث والانزجار يتوقّف على كونالمكلّف به مبتلى به، فلو لم يكن كذلك لكان البعث والزجر لغوا بلا فائدة،فيكون مستهجنا.
وبعبارة اُخرى: كما تتوقّف صحّة التكليف على القدرة العقليّة، كذلكتتوقّف على القدرة العاديّة، فالتكليف على ما لا يقدر المكلّف عادةً على فعلهوتركه قبيح.
هذا في التكاليف المعلومة بالتفصيل.
- (1) وقد يكون التكليف لأجل تبرير عقوبة العبد على المخالفة، لا لأجل إيجاد الداعي في نفسه علىالامتثال. منه مدّ ظلّه.
ج5
وأمّا في موارد العلم الإجمالي فلو كان أحد الأطراف خارجا عن محلّالابتلاء لشكّ المكلّف في توجّه تكليف فعلي بداعي البعث والزجر إليه،ضرورة أنّه لو كان الإناء الكائن عنده خمرا لتوجّه إليه التكليف، ولو كانالإناء الخارج عادةً عن تحت قدرته خمرا فلا، فلا مانع من إجراء أصالةالبراءة في الإناء المبتلى به، لكون حرمته مشكوكة بشكّ بدوي.
هذا ما اشتهر بين المتأخّرين من الاُصوليّين.
الحقّ في المسألة
والتحقيق أنّ في الخطابات الشرعيّة العامّة المتوجّهة إلى المؤمنين أو الناسقولين:
1ـ أنّ كلاًّ منها وإن كان بحسب الظاهر خطابا واحدا، إلاّ أنّه ينحلّ إلىخطابات متعدّدة بتعداد المخاطبين، فإذا قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُالصِّيَامُ»(1) كان لكلّ فرد من المؤمنين خطاب خاصّ وتكليف مخصوصبوجوب الصيام.
ولازم هذا القول رعاية الشرائط الشخصيّة بالنسبة إلى كلّ مخاطببالخصوص، فمن كان قادرا على الامتثال مثلاً يتوجّه إليه الخطاب، ومن لميكن قادرا فلا، لقبح توجيه التكليف إلى العاجز.
ويرد على هذه النظريّة إشكالات عديدة:
أ ـ أنّ انحلال الخطاب العامّ إلى خطابات شخصيّة يستلزم عدم كون الكفّاروالعصاة مكلّفين، لعلم الشارع بعدم انبعاثهم وانزجارهم عقيب البعثوالزجر، فكان توجيه التكليف إليهم لغوا قبيحا، مع أنّا نعلم بكون الكافر
(صفحه94)
والعاصي مكلّفا كالمؤمن المطيع.
ب ـ أنّه كما يستلزم عدم توجّه التكليف إلى غير من ابتلى به، كذلكيستلزم عدم توجّه الأحكام الوضعيّة إليه، لاشتراكهما في عدم تحقّق القدرةالعاديّة عليهما، فلابدّ من أن يكون الخمر نجسةً بالنسبة إلى من تمكّن منالتصرّف فيها بحسب العادة، وأمّا من لم يتمكّن عادةً من التصرّف فيها وتركه،فجعل النجاسة بالنسبة إليه مستهجن، مع أنّه لا فرق في الأحكام الوضعيّة بينمن ابتلى بها وغيره، فإنّ البول مثلاً كما أنّه نجس بالنسبة إلىالقادر علىالتصرّف فيه كذلك نجس بالنسبة إلى العاجز عن ذلك عادةً.
نعم، الأحكام الوضعيّة الظاهريّة قد تختلف بالنسبة إلى الأشخاص، فمنتيقّن بنجاسة ثوب ثمّ شكّ في ذلك يجري عنده استصحاب نجاسته، وأمّا من لميعلم حالته السابقة فتجري عنده أصالة الطهارة.
وأمّا الأحكام الوضعيّة الواقعيّة فلا تتفاوت بين الأشخاص أصلاً.
ج ـ أنّه يستلزم جريان البراءة عند الشكّ في القدرة، لأنّ من شكّ في أنّهقادر على الامتثال أم لا شكّ في توجّه التكليف إليه، والشكّ في التكليف هومجرى البراءة، مع أنّ جميع الفقهاء يقولون بلزوم الاحتياط عند الشكّ فيالقدرة.
كلام الإمام«مدّ ظلّه» في الخطابات العامّة
2ـ ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» من أنّ المخاطب فيالخطابات العامّة وإن كان متعدّدا، إلاّ أنّ الخطاب واحد واقعا كما هو ظاهره،من دون أن ينحلّ إلى خطابات عديدة، لشهادة الوجدان بعدم الفرق بينالخطاب المتوجّه إلى شخص واحد وبين ما كان متوجّها إلى أشخاص عديدة