ج5
كلام المحقّق اليزدي رحمهالله في المسألة
الثالث: ما أفاده المحقّق المؤسّس الحائري رحمهالله بقوله:
غاية ما يمكن أن يقال في وجه عدم وجوب الاحتياط هو أنّ كثرةالأطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلاً في طرف خاصّ، بحيث ليعتني به العقلاء ويجعلونه كالشكّ البدوي، فيكون في كلّ طرف يقدم الفاعلعلى الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه(1)، إنتهى موضعالحاجة من كلامه.
وإن شئت توضيح ذلك وتصديقه فارجع إلى طريقة العقلاء، ترى أنّ كثرةالأطراف قد تكون بحدّ يعدّ الاعتناء ببعضها خروجاً عن طريقة العقلاء، مثلاً:لو كان الإنسان في بلد له عشرة آلاف بيت، وسمع أنّه وقع في واحد من بيوتالبلد حريق، فوثب للتفتيش عن الواقعة، وأظهر الوحشة والاضطراب، معلّلبأنّه يمكن أن يكون في بيتي، لعدّ عند العقلاء ضعيف العقل، وليس ذلك إللكثرة الأطراف وضعف الاحتمال، وإلاّ فالعلم الإجمالي محقّق، وبيته أحدالأطراف، فغرضه تامّ في حفظ بيته.
ولو سمع أحد أنّ واحداً من أهل بلدة فيها مأة ألف نسمة قتل، وكان ولدهالعزيز فيها، فاضطرب من هذا الخبر، ورتّب عليه الأثر من التفتيش عن حالولده وإظهار الوحشة والاضطراب، لعدّ سفيهاً ضعيف العقل، وليس ذلك إللكثرة الاحتمال، وأنّ العقلاء لا يعتنون به لأجل موهوميّته، وهذا واضح.
هذا توضيح ما أفاده المحقّق الحائري.
ولكنّه رحمهالله ضعّفه بقوله:
(صفحه118)
ولكن فيما ذكرنا تأمّل، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد واحدبالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجه عنها،وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالسلب الكلّي(1)؟! إنتهىموضع الحاجة من كلامه.
الجواب عن هذا الإشكال
ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ المستحيل هو الجمع بين العلم بوجود الخمرمثلاً بنحو الموجبة الجزئيّة في أطراف غير محصورة، وبين الظنّ بعدم وجودالخمر فيها أصلاً بنحو السالبة الكلّيّة، مع أنّ الدليل ـ كما اعترف به هذا المحقّقالكبير ـ هو الاطمئنان بعدم كون كلّ واحد من الأطراف مع قطع النظر عنسائرها خمراً، وهذا لا ينافي العلم بوجود الخمر فيها بنحو الموجبة الجزئيّة،لتغاير متعلّقهما. ويشهد عليه إمكان الجمع بين العلم بخمريّة أحد الإنائين فيالشبهة المحصورة، وبين الشكّ في خمريّة كلّ منهما.
نعم، هاهنا شبهة اُخرى، وهي أنّ كلاًّ من الأطراف وإن جرت فيه أمارةعقلائيّة على عدم كونه خمراً، إلاّ أنّ حجّيّة الأمارات سواء كانت شرعيّةأو عقلائيّة مشروطة بعدم العلم التفصيلي أو الإجمالي بخلافها، مع أنّا نعلمإجمالاً هاهنا بكذب واحدة من هذه الأمارات، فتتساقط كلّها عن الحجّيّة، كمأنّا لو علمنا بكذب أحد الخبرين لكان الأصل الأوّلي تساقطهما.
إن قلت: نعم، ولكن على وفق كلّ من هذه الأمارات أمارة عقلائيّة اُخرىدالّة على عدم كونها هي الأمارة الكاذبة.
قلت: يتولّد هاهنا علم إجمالي آخر بكذب واحدة من هذه الأمارات
ج5
الجديدة ويتسلسل.
لكنّ الذي يسهّل الخطب هو أنّ العلم الإجمالي لا يكاد يوجب عند العقلاءتساقط هذه الأمارات الكثيرة، كيف والحاكم بهذه الأمارات أيضاً هو العقلاءأنفسهم؟!
وبالجملة: لا بأس بالتمسّك بهذا الوجه الثالث أيضاً لإثبات عدم وجوبالاحتياط في الشبهات غير المحصورة.
الميزان في كون الشبهة غير محصورة
قد وقع البحث بينهم فيما به تتمايز الشبهة المحصورة عن غيرها:
ولا يخفى عليك أنّ الروايات غير مشتملة على عنوان «الشبهة غيرالمحصورة»(1) بل هي من الاصطلاحات المخترعة من قبل الفقهاء.
وبعبارة اُخرى: الأدلّة الثلاثة التي تمسّكوا بها لإثبات عدم وجوبالاحتياط في الشبهة غير المحصورة مختلفة:
ففي بعضها ترتّب الحكم على نفس عنوان «الشبهة غير المحصورة» وهوالإجماع والضرورة، وفي بعضها ترتّب على عنوان آخر غيرها، وهو الرواياتوالوجه الثالث الذي نقلناه عن درر المحقّق الحائري رحمهالله .
فلابدّ من ملاحظة كلّ واحد من العناوين المأخوذة في هذه الوجوه الثلاثةوما يقتضيه في المقام، فنقول:
لو أغمضنا عن الإشكالين المتقدّمين(2) في الإجماع وفرضناه دليلاً تامّاً فيالمقام يلزمه أمران:
- (1) وكذلك عنوان «الشبهة المحصورة». م ح ـ ى.
(صفحه120)
أ ـ أنّ العنوان المأخوذ فيه ـ كما أشرنا إليه ـ هو «الشبهة غير المحصورة»فلابدّ من المراجعة إلى العرف في ضابطها، لأنّ الملاك في معاني موضوعاتالأدلّة هو نظر العرف.
فعن جمع من الأكابر تحديدها ببلوغ الأطراف إلى حدّ تعسّر عدّها.
وزاد بعض قيد «في زمان قصير» ثمّ الزمن القصير حيث يكون ذا مراتبأحالوا فهمه إلى العرف.
إلى غير ذلك ممّا قيل في ضابط الشبهة غير المحصورة ممّا لا يخلو عنالجزاف كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله (1).
ب ـ أنّ الإجماع حيث يكون دليلاً لبّيّاً، لا يمكن التمسّك به إلاّ في القدرالمتيقّن، فلا يثبت به إلاّ عدم وجوب الموافقة القطعيّة، وأمّا عدم حرمة المخالفةالقطعيّة فلا يمكن إثباته به.
هذا بناءً على الإجماع.
وأمّا بناءً على كون ما يدلّ على عدم وجوب الاحتياط في المقام هوالروايات فقد عرفت أنّ أهمّها هو صحيحة عبداللّه بن سنان، والعنوانالمأخوذ فيها هو «شيء فيه حلال وحرام» وحيث إنّه خرج عن تحتها الشبهةالمحصورة، لكون الترخيص فيها ترخيصاً في المعصية بنظر العرف، كان العنوانالباقي تحتها ـ كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله ـ غير عنوان المخصّص من دون أنيعنون بعنوان خاصّ(2).
إن قلت: لمّا خرج عن تحتها الشبهة المحصورة كان الباقي معنوناً بـ «غيرالشبهة المحصورة» وهو عبارة اُخرى عن «الشبهة غير المحصورة»(3).
ج5
قلت: إنّ الملاك في تخصيص الرواية ليس كون الشبهة محصورة، بل الملاكهو استلزام الإذن في الارتكاب الإذن في المعصية عند العقلاء.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ نتيجة هذه الرواية لا تنحصر في عدم وجوب الموافقةالقطعيّة، بل تدلّ حتّى على عدم حرمة المخالفة القطعيّة.
إن قلت: كيف يمكن الجمع بينها وبين دليل حرمة شرب الخمر مثلاً الذييعمّ بإطلاقه الخمر المعلومة بالتفصيل وبالإجمال؟
قلت: قد عرفت(1) أنّ التناقض بينهما يتوقّف على كون الشارع مصرّاً علىرعاية الحكم الواقعي على أيّ حال، ومع ذلك أذِنَ في تركه، وأمّا إذا رفع اليدعن إطلاق دليل حرمة شرب الخمر عند اشتباهها في أطراف العلم الإجماليولم يلزم العبد على رعاية هذا الحرام الواقعي حينئذ لأجل مصلحة أقوى فلميكن الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف مستلزماً للتناقض.
وأمّا الوجه الذي ذكره المحقّق الحائري رحمهالله فالعنوان المذكور فيه هو بلوغكثرة الأطراف إلى حدّ يوجب ضعف الاحتمال في كلّ منها جدّاً، بحيث لا يعتنيالعقلاء به.
وعليه أيضاً لا ينحصر الترخيص في عدم وجوب الموافقة القطعيّة، بليثبت به حتّى عدم حرمة المخالفة القطعيّة.
نعم، يجوز الاشتغال بالارتكاب باستناد الروايات ولو كان من أوّل الأمرقاصداً إلى ارتكاب الجميع، بل ولو كان قاصداً إلى ارتكاب الحرام الواقعي،لما عرفت من أنّ إطلاق دليل حرمة الخمر وإن كان يعمّ الخمر المعلومةبالإجمال، إلاّ أنّ الروايات تخرجها عن تحته لأجل مصلحة أقوى.
- (1) وهي العنوان المأخوذ في الإجماع، فليس بينه وبين الروايات فرق في هذه الجهة. م ح ـ ى.