(صفحه442)
نقد جوابه الثاني عن الإشكال
ويرد على جوابه الثاني أوّلاً: أنّ عدّ قاعدة حرمة مال المسلم من فروعقاعدة «السلطنة» ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، فإنّهما قاعدتان مستقلّتان عنوانومفهوماً ودليلاً، فإنّ قاعدة «السلطنة» عبارة عن سلطنة المالك على التصرّففي ماله، وعلى منع غيره منه، وهذه قاعدة عقلائيّة قد أمضاها الشارعوأنفذها بقوله في النبوي المشهور: «الناس مسلّطون على أموالهم»(1).
وقاعدة «حرمة مال الغير» عبارة عن حرمة تصرّف غير المالك بلا إذنمنه، وهذه قاعدة عقلائيّة اُخرى قد أمضاها الشارع أيضاً، والدليل عليهكثير: منه قوله صلىاللهعليهوآله : «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصيةاللّه، وحرمة ماله كحرمة دمه»(2).
وبالجملة: إنّهما متغايرتان مفهوماً: فإنّ الموضوع في قاعدة «السلطنة» هوالمالك، وفي قاعدة «حرمة مال الغير» هو الأجنبيّ، ودليلاً: فإنّ دليل الاُولىقوله صلىاللهعليهوآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» ودليل الثانية قوله صلىاللهعليهوآله : «حرمة مالالمؤمن كحرمة دمه»، كما أنّهما متغايرتان عنواناً، وهو واضح.
فعدّ إحداهما من فروع الاُخرى في غير محلّه.
وممّا ذكرنا يعلم أنّ تفسير احترام مال المسلم بسلطنة المالك على منع غيرهمن التصرّف في ماله ـ كما فعله المحقّق النائيني رحمهالله ـ أيضاً في غير محلّه.
والشاهد على هذا أنّ قاعدة «حرمة المال» جارية في مال الصغير أيضاً،فلا يجوز للأجنبيّ أن يتصرّف فيه، مع عدم جريان قاعدة «السلطنة» فيه، إذ
- (1) بحار الأنوار 2: 272، كتاب العلم، الباب 33، باب ما يمكن أن يستنبط من الآيات والأخبار من متفرّقاتمسائل اُصول الفقه، الحديث 7.
- (2) وسائل الشيعة 29: 20، كتاب القصاص، الباب 3 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.
ج5
لا يجوز للصغير أيضاً أن يتصرّف في ماله.
فحكومة دليل نفي الضرر على قاعدة «السلطنة» غير مربوطة بقاعدة«حرمة مال المسلم».
وثانياً: أنّ القول بانحلال قاعدة «السلطنة» إلى أمر وجودي وسلبي عقلغريب، فإنّها كما لا تكون مركّبة من حكمين، لا تنحلّ أيضاً إلى جزئينعقليّين، بل هي بسيطة، ومعناها تسلّط المالك على ماله، والكثرة إنّما هي فيمتعلّقها، فنقول: «المالك مسلّط على ماله: بالتصرّف فيه بما يشاء، وبمنع الغيرمن التصرّف فيه» فالسلطنة على منع الغير من أنحاء سلطنته على مالهومتعلّقاتها، فلا انحلال.
سلّمنا، لكنّ السلطنة على منع الغير ليست أمراً سلبيّاً، ولو كان متعلّقهـ وهو منع الغير ودفعه ـ سلبيّاً، والحال أنّ متعلّقها أيضاً ليس بسلبي، فإنّ المنعوالدفع أمر وجودي لا سلبي كما هو واضح.
وثالثاً: أنّه يلزم على ما ذهب إليه هذا المحقّق الكبير في معنى الرواية(1) أنّهلو كان لأحد من المسلمين دار في زماننا هذا وكان طريقه إليها في جوف منزلشخص آخر وكان يدخل فيه بلا استئذان وأبى عن الاستئذان لجاز لهذالشخص هدم داره ورميها إليه باستناد حديث «لا ضرر»، لأنّ الضرر وإنكان لأجل الدخول بلا استئذان إلاّ أنّ جواز الدخول بلا استئذان معلول مناستحقاق بقاء داره في ذلك المكان ـ على ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله فدليل نفي الضرر رافع لعلّة العلل، وهو حقّ إبقاء الدار، فيجوز هدمها،ولا أظنّ أنّه رحمهالله يلتزم بمثل هذا مع كونه نظير قصّة سمرة مع الأنصاري.
ورابعاً: أنّا لا نسلّم كون حقّ الطريق معلولاً لاستحقاق إبقاء الملك في
- (1) أي كون النبيّ صلىاللهعليهوآله في مقام بيان حكم اللّه تعالى. م ح ـ ى.
(صفحه444)
مكانه، ألا ترى أنّ زيداً لو اشترى أرضاً من عمرو، وكانت في وسط أراضيه،وقال عمرو: إنّي لم أبعه الطريق، وصدّقه زيد، إلاّ أنّه ادّعى تبعيّة حقّ الطريقلملكيّة الأرض، لم يكن مسموعاً، بل يلزمه اشتراء الطريق مستقلاًّ، وكذا لوكان سمرة بن جندب وهب نخلته لزيد دون حقّ طريقها وصرّح بذلك، كانتالهبة صحيحة، وصار زيد مالكاً لها، ولكنّه لا يجوز له الدخول في منزلالأنصاري لوصوله إليها والتصرّف فيها إلاّ بعد اشتراء الطريق واستحقاقه له.
هذا أوضح شاهد على عدم ترتّب حقّ الطريق على استحقاق إبقاء الملكفي مكانه وعدم معلوليّته له، بخلاف وجوب المقدّمة، فإنّه ـ بناءً على الملازمة معلول لوجوب ذي المقدّمة.
فحديث نفي الضرر لا يرفع إلاّ جواز دخول سمرة بلا استئذان، لأنّهموجب للضرر على الأنصاري من دون أن يكون معلولاً لاستحقاق إبقاءنخلته في البستان، فلِمَ أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بقلعها والرمي بها إليه، معلّلاً بحكم اللّهتعالى: «لا ضرر ولا ضرار» على ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله ؟
وأمّا على ما ذهبنا إليه: من كون «لا ضرر ولا ضرار» حكماً صادراً منمقام سلطنة النبيّ صلىاللهعليهوآله تعليلاً لحكم سلطاني آخر، وهو «فاقلعها وارم بها إليه»فالحديث حاكم على قاعدة «السلطنة» في خصوص قصّة سمرة، فإنّ القاعدةتدلّ على سلطنة المالك على منع تصرّف الغير في ماله، وهذا الحديث يرفعهذه السلطنة في خصوص قصّة سمرة بالنسبة إلى قلع الأنصاري النخلةوالرمي بها إليه فقط من دون تصرّف آخر فيها.
فقوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» حكم سلطاني صادر عن النبيّ صلىاللهعليهوآله حاكمعلى قاعدة السلطنة المستفادة من قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس مسلّطون على أموالهم».
لكنّه لا يكون حاكماً على سائر أدلّة الأحكام الأوّليّة، فالاستدلال به على
ج5
نفي وجوب الوضوء الضرري وعدم لزوم البيع الغبني وخيار العيب ونحوهغير تامّ.
ولا يلزم منه فقدان الدليل في هذه الفروع الفقهيّة، إذ دلّ على كلّ منها دليلخاصّ به، فعدم وجوب الوضوء الضرري مستفاد من الأخبار، وعدم لزومالبيع الغبني مجمعٌ عليه، على أنّه لا يمكن أن يكون حديث الضرر دليلاً علىخيار الغبن، إذ يمكن دفع الضرر بردّ الغابن إلى المغبون ما زاد على قيمة المبيعمن الثمن، ولا يستفاد من الحديث أكثر من ذلك وإن كان حكماً إلهيّاً، فثبوتالخيار للمغبون ـ وهو تخييره بين إمضاء البيع بالثمن المجعول وبين ردّه ـ أجنبيّعن مفاد الحديث.
وأمّا خيار العيب فالروايات الكثيرة المتظافرة تدلّ عليه، فلم نحتج فيإثباته إلى حديث الضرر، بل لا يمكن الاستدلال به هاهنا أيضاً، لأنّ مقتضاهتعيّن الأرش، لا التخيير بينه وبين الفسخ، إذ الضرر يدفع بأخذ الأرش،فالتخيير بينهما ـ الذي عليه الفتوى ـ أجنبيّ عن الحديث.
وبالجملة: لا يلزم ممّا ذهبنا إليه فقدان الدليل على هذه الفروع الفقهيّةوأمثالها، بل لا يمكن الاستدلال بحديث الضرر على بعضها، فلا ملزم للقولبكونه حكماً إلهيّاً.
إن قلت: كون «لا ضرر ولا ضرار» نهياً سلطانيّاً خلاف المشهور في معنىالحديث.
قلت: لا ضير في ذلك بعد علمنا بأنّ ما ذهب إليه المشهور مستند إلى هذهالأحاديث التي بأيدينا، ولم يكن لهم مدرك آخر لقاعدة «لا ضرر» سواها،لكنّهم فهموا منها غير المعنى المختار الموافق لفهم العرف منها.
على أنّهم لم يتّفقوا على معنى واحد كما عرفت، فإنّ شيخ الشريعة
(صفحه446)
قال بكونه نهياً إلهيّاً، والباقون قالوا بكونه نفياً، ولكنّهم اختلفوبعد ذلك، فذهب بعضهم إلى أنّ المنفيّ هو الضرر غير المتدارك ـ كمنقله الشيخ عن بعض الفحول ـ وبعضهم الآخر إلى كون الاستعمال بنحوالحقيقة من دون ادّعاء، وبعضهم الثالث إلى كونه بنحو الحقيقة الادّعائيّة،وبعضهم الرابع ـ مثل الشيخ رحمهالله ـ إلى كونه مجازاً، فإذا لم يتّفقوا على معنى واحدفمخالفتهم سهلة.
حجّيّة حديث «لا ضرر» في زماننا هذ
إذا عرفت أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» حكم سلطاني صادر عنهحاكم على قاعدة «السلطنة» فاعلم هاهنا أنّه لا يختصّ بزمان النبيّ صلىاللهعليهوآله بلهذا النهي عن الإضرار بالغير الصادر عن مقام ولايته صلىاللهعليهوآله نافذ في جميعالعصور وحاكم على تلك القاعدة إلى يوم القيامة(1)، لأنّ ولايته صلىاللهعليهوآله المستفادةمن قوله تعالى: «النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(2) عامّة لجميع المؤمنينفي جميع الأعصار، ووجوب إطاعته المستفاد من قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَآمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ»(3) شامل لجميع الاُمّة إلى يوم القيامة،فالحكم الصادر من مقام الولاية أيضاً يكون نافذاً إلى يوم القيامة وحاكماً علىقاعدة «السلطنة» في جميع الأعصار، فلا يجوز في زماننا هذا أيضاً الإضراربالغير مستنداً إلى قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» والشاهد على هذالتعميم أنّ أبا جعفر الباقر عليهالسلام كان راوياً لهذه القصّة، فإنّ الظاهر أنّه عليهالسلام نقله
- (1) هذا لا ينافي ما تقدّم آنفاً من كون الحديث حاكماً على قاعدة «السلطنة» في خصوص قصّة سمرة، لأنّذلك الكلام كان بالنسبة إلى الأمر بقلع النخلة والرمي بها إليه، وهذا بالنسبة إلى النهي عن الضرر والضرار.م ح ـ ى.