ج5
ما محصّله:
إنّ المخالفة القطعيّة لم تكن محرّمة شرعا، بل هي قبيحة عقلاً(1)،وقبحها فرع تنجّز التكليف، فإنّ مخالفة التكليف الغير المنجّز لا قبح فيها،كما إذا اضطرّ إلى أحد أطراف المعلوم بالإجمال، فصادف الواقع، فإنّهمع حصول المخالفة يكون المكلّف معذورا، وليس ذلك إلاّ لعدم تنجّز التكليف،وفيما نحن فيه لا يكون التكليف منجّزا في كلّ واقعة، لأنّ في كلّ منهيكون الأمر دائرا بين المحذورين، وكون الواقعة ممّا تتكرّر لا يوجب تبدّلالمعلوم بالإجمال، ولا خروج المورد عن الدوران بين المحذرين، فإنّمتعلّق التكليف إنّما هو كلّ واقعة مستقلّة، ولا يلاحظ انضمام بعضها إلىبعض، حتّى يقال: إنّ الأمر فيها لا يدور بين المحذورين، لأنّ المكلّفيتمكّن من الفعل في جميع الوقايع المنضمّة، ومن الترك في جميعها أيضاً،ومن التبعيض، ففي بعضها يفعل وفي بعضها الآخر يترك، ومع اختيارالتبعيض تتحقّق المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الواجب عليه إمّا الفعل في الجميعوإمّا الترك في الجميع، وذلك: لأنّ الوقايع بقيد الانضمام لم يتعلّق التكليفبها، بل متعلّق التكليف كلّ واقعة مستقلّة بحيال ذاتها، فلابدّ من ملاحظتهمستقلّة، ففي كلّ واقعة يدور الأمر فيها بين المحذورين ويلزمه التخييرالاستمراري.
والحاصل: أنّ التخيير البدوي في صورة تعدّد الواقعة يدور مدارأحد أمرين: إمّا من حرمة المخالفة القطعيّة شرعا ليجب التجنّب
- (1) بعض المستقلاّت العقليّة تستتبع الحكم الشرعي، كقبح الظلم الذي تلزمه الحرمة الشرعيّة، وبعضها لتستتبعه، كقبح مخالفة التكليف الشرعي، فإنّه لو كان مستلزماً للحرمة شرعا لاستحقّ من ترك الصلاة مثلعقوبتين: إحداهما: لأجل ترك الواجب الذي هو الصلاة، والثانية: لأجل فعل الحرام الذي هو مخالفةالتكليف، ولا يمكن الالتزام بذلك. منه مدّ ظلّه توضيحا لكلام المحقّق النائيني رحمهالله .
(صفحه30)
والفرار عن حصولها ولو بعد ذلك، فيجب على المكلّف عدم إيجاد ما يلزممنه المخالفة القطعيّة، وإمّا من ملاحظة الوقايع المتعدّدة منضمّا بعضهإلى بعض في تعلّق التكليف بها حتّى يتمكّن المكلّف من مخالفة التكليفبتبعيض الوقايع واختياره في البعض ما يخالف اختياره في الآخر،وكلّ من الأمرين الذين يبتني على أحدهما التخيير البدوي محلّ منع،فلا محيص من التخيير الاستمراري وإن حصل العلم بالمخالفة، فتأمّلجيّدا(1).
إنتهى ملخّصا وبتغيير ما في بعض العبارات.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفيه: أنّ التعبير بالمخالفة القطعيّة وعدم حرمتها شرعا لا يلائم ملاحظة كلّواقعة مستقلّة، لعدم إمكان المخالفة القطعيّة في واقعة واحدة، بخلاف ما إذانضمّ بعضها إلى بعض، فإنّ المكلّف يتمكّن حينئذٍ من الإتيان بصلاة الجمعةفي اُسبوع وتركها في اُسبوع آخر، وحينئذٍ تتحقّق المخالفة القطعيّة لأحدالعلمين الإجماليّين المتولّدين من العلم الإجمالي الأصلي والموافقة القطعيّةللآخر، وحيث إنّه لا ترجيح بينهما كما عرفت يتخيّر المكلّف بين الفعل والتركفي الواقعة الثانية وما بعدها كما كان مخيّرا في الواقعة الاُولى.
وبالجملة: إن أنكرتم العلمين الإجماليّين المتولّدين من العلم الإجماليالأصلي ولاحظتم كلّ واقعة مستقلّة فلا يقدر المكلّف على المخالفة القطعيّة كييبحث في قبحها العقلي وحرمتها الشرعيّة، وإن ضممتم بعض الوقائع إلىبعضها الآخر فلابدّ من الالتزام بما اخترناه لإثبات استمراريّة التخيير.
- (1) فوائد الاُصول 3: 453.
ج5
هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة التوصّليّين.
(صفحه32)
دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في التعبّديّات
وأمّا إذا كان في البين أمرٌ تعبّدي فله أيضاً صور:
أ ـ أن يكون الوجوب والحرمة كلاهما تعبّديّين(1).
وهذا لا يكون من دوران الأمر بين المحذورين اصطلاحا، لتمكّن المكلّفمن المخالفة القطعيّة بإتيان العمل أو تركه خاليا عن قصد القربة، مع أنّالدوران بين المحذورين يختصّ بما إذا لم يقدر المكلّف لا على الموافقة ولا علىالمخالفة القطعيّة.
نعم، لا فرق بينهما من حيث الحكم، لجريان التخيير هاهنا أيضاً، فلابدّ لهإمّا من الفعل بقصد القربة أو من الترك كذلك، لعدم تمكّنه من الموافقة القطعيّةكما لايخفى.
ب ـ أن يكون أحدهما المعيّن تعبّديّا، كما إذا دار الأمر بين الوجوبالتعبّدي والحرمة التوصّليّة.
وهذا أيضاً خارج عن تحت الدوران بين المحذورين اصطلاحا، لقدرةالمكلّف على المخالفة القطعيّة بإتيان الفعل فاقدا لقصد التقرّب، لكن يجري عليهحكمه، فلايجوز له المخالفة القطعيّة، بل يتخيّر بين الفعل مقارنا لقصد التقرب،
- (1) للوجوب التعبّدي أمثلة كثيرة واضحة، وأمّا الحرمة التعبّديّة فهي ما إذا كان ترك الحرام مشروطا بقصدالقُربة، كما في مفطرات الصوم، حيث لا يكفي تركها مطلقا، بل لابدّ من كون الترك مقارنا لقصد القربة.منه مدّ ظلّه.
ج5
وبين الترك.
ج ـ أن يعلم إجمالاً بتعبّديّة أحدهما وتوصّليّة الآخر لا على التعيين.
وهذا من مصاديق الدوران بين المحذورين، لأنّ المكلّف إمّا أن يختار الفعلأو الترك مقارنا لقصد القربة أو فاقدا له، ولا يصدق على شيء من هذهالحالات الأربع مخالفة قطعيّة، ولا موافقة كذلك، فهذه الصورة من جهةاستحالة الموافقة والمخالفة القطعيّة نظير دوران الأمر بين الوجوب والحرمةالتوصّليّين فتجري فيها أصالة التخيير.
والحاصل: أنّ أصالة التخيير تجري في جميع هذه الصور الثلاثة الأخيرة،لكنّ الفرض الأخير يكون بحسب الاصطلاح أيضاً من مصاديق الدوران بينالمحذورين، دون الفرضين الأوّلين.
هذا تمام الكلام في أصالة التخيير.