وأمّا بناءً على عدم الانحلال فوقع الخلاف بينهم.
فالمحقّق الخراساني رحمهالله مع ذهابه في المبحث السابق إلى عدم الانحلال ولزومالاحتياط عقلاً ذهب هاهنا إلى جريان البراءة الشرعيّة ولم يفصّل بين القولبكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وبين القول بكونهمقتضياً له(1).
وسيجيء بيان كيفيّة جريانها عند المحقّق الخراساني رحمهالله .
لكنّ المحقّق الشيخ ضياء الدين العراقي رحمهالله فصّل وقال بعدم جريان البراءةالشرعيّة بناءً على كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة،وبجريانها بناءً على كونه مقتضياً له مؤثّراً فيه لو لم يمنع عنه مانع(2).
بيان ما هو الحقّ في المقام
ومقتضى التحقيق أن يقال: بناءً على عدم الانحلال لا مجال لجريان البراءةالشرعيّة أصلاً، وإن كان العلم الإجمالي مقتضياً لوجوب الموافقة القطعيّة.
وذلك لأنّ الدليل على البراءة الشرعيّة هو حديث الرفع، وهذا الحديث ليصلح لأن يتمسّك به هاهنا إلاّ بأحد وجوه ثلاثة:
أ ـ أن يرفع به الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر، فإنّه ممّا لا يعلم، فيرفعهحديث الرفع.
ب ـ أن يرفع به الحكم الوضعي، أعني الجزئيّة، كجزئيّة السورة للصلاة،فإنّها مشكوكة فرضاً، فيرفعها الحديث.
ج ـ أن يرفع به الوجوب الغيري المتعلّق بالجزء المشكوك، فإنّه أيضاً ممّا ليعلم، فيعمّه الحديث.
نقد الوجوه المتصوّرة في جريان حديث الرفع في المقام
لكن كلّ هذه الوجوه باطلة.
أمّا الأوّل: فلأنّه معارض بجريان أصالة البراءة الشرعيّة بالنسبة إلىالوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ، فإنّه كما كان الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثرممّا لا يعلم، فكذلك الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ، وحيث لا يمكن جريانالحديث في كليهما للزوم المخالفة القطعيّة العمليّة للتكليف المعلوم تعارضالأصلان، فلا يجري الأصل، لا في ناحية الأكثر ولا في ناحية الأقلّ.
لا يقال: أصل الوجوب في الأقلّ ـ مع قطع النظر عن كونه نفسيّاً أوغيريّاً ـ متيقّن، لأنّه لا يخلو من أن يكون واجباً نفسيّاً أو غيريّاً، فأصل
(صفحه186)
الوجوب فيه معلوم، فلا مجال لجريان البراءة فيه، ولكنّه في الأكثر مشكوكفيه، فالحديث يعمّه ويرفعه بلا معارض.
فإنّه يقال: أصل الوجوب ليس مجعولاً شرعيّاً، بل المجعول من قبل الشارعخصوص الوجوب النفسي أو الغيري، ولكن أصل الوجوب جامع انتزاعيلهما، والشاهد على هذا أنّ الوجوب أمر اعتباري، والشارع إنّما يعتبر الوجوبالنفسي أو الغيري لا أصل الوجوب، فإذا كان أصل الوجوب منتزعاً مننوعيه فلا يتمكّن الشارع من رفعه، لأنّه لا يكاد يرفع إلاّ ما كان وضعه بيده،فلا يكاد يندرج أصل الوجوب المشكوك في الأكثر تحت حديث الرفع.
لا يقال: جريان الاُصول إنّما يكون بلحاظ الأثر الشرعي لها، وأمّا إذا لميكن للأصل أثر شرعي فلا يكاد يكون جارياً، وأصالة البراءة في الوجوبالنفسي المتعلّق بالأكثر تكون ذات أثر شرعي، وهو عدم لزوم الإتيان بالجزءالمشكوك، بخلاف الأصل الجاري في الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ، إذ ليسله أثر شرعي، لأنّ الأقلّ يجب إتيانه بلا ريب، فحديث الرفع لا يمكن أن يرفعالوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ بلحاظ عدم لزوم الإتيان به، ولا يتصوّر لهأثر آخر.
والحاصل: أنّ الأصل في ناحية الأكثر ذو أثر شرعي، لا في ناحية الأقلّ،فلا يجري في الثاني، ويجري في الأوّل بلا معارض.
فإنّه يقال: لا يشترط أن يكون للأصل أثر شرعي في جميع الموارد، بليكفي في جريانه ترتّب الأثر عليه في بعض الموارد، والأصل في ناحية الأقلّوإن كان بلا أثر فيما نحن فيه، إلاّ أنّ له أثراً في مورد تعذّر المشكوك.
توضيح ذلك: أنّ الأقلّ لو كان واجباً نفسيّاً لوجب الإتيان به حتّى عندتعذّر الجزء المشكوك، وإلاّ فلا، بل سقط التكليف رأساً، فإذا تعذّرت السورة