(صفحه318)
الثاني: لا إشكال في أنّ لفظة «كلّه» تدلّ على أنّ الموصول مركّب ذوأجزاء وأبعاض، إنّما الإشكال والنزاع في أنّها مجموعيّة نظير العامّ المجموعي،أو أفراديّة نظير العامّ الأفرادي؟
الوجوه المتصوّرة في المقام أربعة: لأنّ لفظة «كلّ» ذكرت في الحديث مرّتين،وكلّ منهما يحتمل بدواً أن تكون مجموعيّة وأفراديّة.
فلابدّ من البحث في إمكان هذه الصور أوّلاً، وفي أنّ الحديث ظاهر في أيّةصورة منها ثانياً لو كان الممكن أكثر من صورة واحدة.
فنقول: لا يمكن أن يكون لفظة «الكلّ» الأخيرة مجموعيّة، لأنّ النهي عنترك مجموع الأجزاء يوجب لزوم الإتيان بمجموعها، وهو منافٍ لصدرالحديث الدالّ على أنّ هذا الحكم ثابت للمركّب الذي لا يدرك جميع أجزائه،ولا يجوز المنافاة بين الحكم وموضوعه. هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ الإتيان بمجموع أجزاء المركّب الذي لا يدرك كلّه غير مقدور فينفسه، وإن أغمضنا عن تناقض الحكم وموضوعه.
فلابدّ من أن يكون لفظة «الكلّ» الثانية أفراديّةً فقط.
وأمّا لفظة «الكلّ» الاُولى: فقال شيخنا الأعظم الأنصاري رحمهالله : لا يمكنأخذها أفراديّةً، لاستلزامه أن يكون الحديث بمعنى «ما لا يدرك شيء منأجزائه لا يترك شيء منها» وفساده ظاهر، فتعيّن كون «الكلّ» الاُولىمجموعيّة، والثانية أفراديّة(1). هذا حاصل ما أفاده الشيخ رحمهالله .
لكنّه مردود، لأنّ المولى إذا قال: «أكرم كلّ عالم» بنحو العامّ الاستغراقي فلمانع من أن يقول: «إذا لم تدرك إكرام كلّ عالم فلا تترك إكرام كلّهم»، لأنّ عدمالقدرة على إكرام كلّ عالم كما يتحقّق بعدم القدرة مطلقاً، يتحقّق أيضاً بعدم
- (1) فرائد الاُصول 2: 394.
ج5
القدرة على إكرام بعضهم مع التمكّن من إكرام البعض الآخر.
وكذلك فيما نحن فيه، فإذا قال الشارع: «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ»(1) يصحّ أن يقول:«إذا لم تدرك كلّ جزء من أجزائها لا تترك كلّها»، وليس معنى الرواية ـ بناءًعلى كون «الكلّ» أفراديّة ـ «ما لا يدرك شيء منها لا يترك شيء منها» كمتخيّل الشيخ رحمهالله .
قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»: هذا القول من الشيخ رحمهالله نظير قولهفي باب المفاهيم: من أنّ المنطوق إذا كان عامّاً كان المفهوم أيضاً عامّاً، فمفهومقوله عليهالسلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(2) هو «الماء إذا لم يكن قدر كرّينجّسه جميع النجاسات»، لأنّ لفظ «شيء» في المنطوق نكرة في سياق النفي،فهو عامّ، فلابدّ من أن يكون المفهوم أيضاً عامّاً.
وقال الشيخ المحقّق صاحب الحاشية الكبيرة على «المعالم»أخو صاحب الفصول: مفهومه خاصّ، وهو أنّ «الماء إذا لم يكن قدركرّ ليس لا ينجّسه شيء» ولازمه تنجّس الماء القليل بشيء من النجاساتإجمالاً.
ويؤيّده أنّ نقيض الكلّيّة جزئيّة، لاشتراط الاختلاف في «الكمّ» في بابالتناقض، كما قرّر في المنطق(3).
فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الممكن من الصور الأربع اثنتان: وهمكون لفظة «الكلّ» الثانية أفراديّة، سواء كانت الاُولى مجموعيّةأو أفراديّة.
هذا بحسب مقام الثبوت والإمكان.
- (2) وسائل الشيعة 1: 158 و 159، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1، 2 و 6.
- (3) تهذيب الاُصول 3: 411، وأنوار الهداية 2: 394.
(صفحه320)
وأمّا بحسب مقام الإثبات والدلالة فالإنصاف أنّ الحديث ظاهر فيما ذهبإليه الشيخ رحمهالله من كون «الكلّ» مجموعيّةً، وإن لم يكن متعيّناً بحسب الإمكانومقام الثبوت.
إذا عرفت هاتين المقدّمتين فقد ظهر لك جواز التمسّك بالحديث في المقام لوأغمضنا عن احتمال شموله للمستحبّات، لأنّ «الكلّ» إذا كانت في الموضوعمجموعيّةً وفي الحكم أفراديّةً ـ كما هو ظاهر الرواية ـ كان معناها أنّ «الطبيعةالمركّبة إذا لم يمكن درك مجموع أجزائها لم يجز ترك كلّ جزء منها، بل لابدّ منالإتيان بما يمكن الإتيان به».
مجرى قاعدة «الميسور»
ثمّ اعلم أنّه تداول في كلماتهم أنّ قاعدة «الميسور» لا تجري إلاّ فيما يصدقعليه عنوان الطبيعة المأمور بها، فلو لم يقدر على شيء من أجزاء الصلاة إلعلى تكبيرة الإحرام مثلاً لا يجري هذه القاعدة، لعدم صدق الصلاة عليها.
بيان ما هو الحقّ في المسألة
أقول: لابدّ من ملاحظة لسان ما دلّ على القاعدة من الروايات الثلاثالمتقدّمة، لينكشف أنّ جريانها مشروط بهذا الشرط أم لا؟
أمّا النبويّة: فلو جعلناها مرتبطة بسؤال «عكاشة» أو «سراقة» فمعناها أنّه«إذا أمرتكم بطبيعة ذات أفراد فأتوا بها زمن استطاعتكم»، وهذا عين محكم به العقل من اشتراط القدرة على إتيان المأمور به في مقام الامتثال، فهيإرشاد إلى حكم العقل كما قلنا سابقاً(1)، ولا ترتبط بالمقام.
ج5
ولو جعلناها مستقلّة فلها معنيان:
أ ـ «إذا أمرتكم بطبيعة ذات أفراد فأتوا من تلك الأفراد ما استطعتم»(1)،فيدلّ على لزوم كون المأتيّ به من أفراد الطبيعة، فلابدّ من صدق عنوانهعليه، فالشرط المتداول بينهم لجريان القاعدة ـ بناءً على هذا المعنى ـ في محلّه.
ب ـ «إذا أمرتكم بطبيعة مركّبة ذات أجزاء فأتوا من تلك الأجزاء المقدارالذي استطعتم»، وهذا يعمّ المقدور من الأجزاء، سواء صدق عليه عنوانالمركّب المأمور به أو لم يصدق، فلا مجال لما اشتهر بينهم، من اختصاصالقاعدة بما صدق عليه العنوان، لأنّه لو لم يقدر من الصلاة مثلاً إلاّ على مقدارلا يصدق عليه اسم الصلاة ـ كتكبيرة الإحرام فقط ـ لوجب عليه الإتيان بهبمقتضى هذه الرواية.
وهكذا القول في العلويّة الاُولى، أعني قوله عليهالسلام : «الميسور لا يسقطبالمعسور»، فإنّ لها أيضاً معنيين:
أ ـ «الميسور من أفراد الطبيعة لا يسقط بالمعسور منها»، وعلى هذا المعنى لإشكال في لزوم صدق عنوان الطبيعة على «الميسور» كما قلنا في النبويّة.
ب ـ «الميسور من أجزاء الطبيعة المركّبة لا يسقط بالمعسور منها»، وهذالمعنى لا يستلزم صدق عنوان الطبيعة المركّبة على «الميسور» من الأجزاء، كمقلنا في النبويّة أيضاً.
والعلويّة الثانية أيضاً لا تدلّ على هذا الشرط، على ما هو الظاهر من
- (1) لكن تقدّم في ص314 أنّ كلمة «شيء» في الرواية وإن كانت ظاهرة في العموم ـ بحيث تشمل الطبيعةذات الافراد، كما تشمل المركّب ذا الأجزاء ـ مع قطع النظر عن سائر ألفاظ الرواية، إلاّ أنّها بملاحظة كون«من» تبعيضيّة، و«ما» موصولة تختصّ بالمأمور به المركّب فقط، ولا تعمّ الطبيعة الكلّيّة، وإلاّ لزم دلالتهعلى وجوب إتيان أفراد الطبيعة بمقدار الاستطاعة والقدرة، وهو خلاف ما هو الواقع من كفاية الإتيانبفرد واحد من الواجبات الشرعيّة. م ح ـ ى.
(صفحه322)
معناها عندنا المتعيّن عند الشيخ الأعظم رحمهالله ، من كون «الكلّ» في ناحيةالموضوع مجموعيّةً وفي ناحية الحكم أفراديّةً، لأنّها ـ بناءً عليه ـ تكون بمعنىأنّ «المركّب الذي لا يدرك مجموع أجزائه لا يجوز أن يترك كلّها» وهذا ليستلزم صدق عنوان الطبيعة المركبّة على ما يمكن دركه من الأجزاء، بل لو لميقدر من الصلاة إلاّ على خصوص تكبيرة الإحرام لعمّها الرواية ووجبالإتيان بها.
فظهر أنّ اشتراط صدق عنوان الطبيعة المركّبة على الأجزاء المقدورة فيجريان قاعدة «الميسور» في المقام، لا يتمّ.
لكنّه متداول في كلماتهم، مشهور عندهم، بنحو جعلوه من المسلّمات، ولميبحثوا في صحّته وسقمه، بل يبحثون فيما يتفرّع عليه، من أنّ الحاكم علىصدق عنوان المركّب على الباقي هل هو العرف أو الشرع؟
وبعبارة اُخرى: تعيين كون الميسور من أفراد الطبيعة هل هو بيد العرف أوبيد الشارع؟
أقول: لا مجال لهذا السؤال على ما اخترناه، من جريان القاعدة وإن لميصدق على الباقي عنوان الطبيعة المأمور بها.
ولكنّ الحاكم في تعيين كون «الميسور» مصداقاً لها لا يكون إلاّ العرف لوقلنا بمقالة المشهور، لأنّه هو الواقف على الموضوعات.
نعم، يجوز للشارع توسعة المعنى العرفي أو تضييقه، مثل أن يقول: «الصلاةالمشتملة على خمسة أجزاء صلاة» مع عدم كونها صلاةً عرفاً، أو يقول:«الصلاة المشتملة على خمسة أجزاء ليست بصلاة» مع كونها صلاة عندالعرف، ولكنّ القاعدة في تعيين الموضوعات هي نظر العرف بلا إشكال.
وينبغي التنبيه على اُمور: