من النجاسات نجسا و منجّسا لما يلاقيه؟ فالملاقي موضوع آخر للنجاسة،فكما أنّ نجاسة الدم حكم وضعي تعبّدي استقلالي كذلك نجاسة ملاقيه، وكمأنّ لزوم الاجتناب عن الدم حكم تعبّدي مستقلّ، كذلك وجوب الاجتنابعن ملاقيه وليس من مصاديق لزوم الاجتناب عن الدم. وبعبارة اُخرى:قوله عليهالسلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1) يدلّ على أنّ للشارع ـ حينملاقى الماء القليل دما ـ ثلاثة أحكام:
وبالجملة: هل تكون نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ ولزوم الاجتناب عنه حكممستقلاًّ أو من توابع نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ولزوم الاجتناب عنه؟
جابر الجعفي عن أبي جعفر عليهالسلام أنّه أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية(1)فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر عليهالسلام : «لا تأكله»فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال لهأبو جعفر عليهالسلام : «إنّك لم تستخفّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ اللّه حرّمالميتة من كلّ شيء»(2).
وجه الدلالة: أنّه عليهالسلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريمالميتة، ولولا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريمالميتة، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.
وفيه أوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة سندا.
وثانيا: أنّها بصدد بيان تحريم الميتة من قبل اللّه تعالى، لا تنجيسها الذي هوالمتنازع فيه، وكون التحريم فيها بمعنى التنجيس خلاف الظاهر، على أنّ بعضأنواع الميتة ـ كالسمك ـ تكون محرّمة ولا تكون نجسة، فلا وجه لجعل«التحريم» بمعنى «التنجيس».
وبالجملة: إنّ الإمام عليهالسلام ذكر «الحرمة» في مقام الاستدلال، وهي أعمّ من«النجاسة» التي هي المتنازع فيها.
لكنّ هاهنا إشكالاً، وهو أنّه لا ملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه،بل الملازمة تختصّ بمسألة النجاسة، فكيف علّل الإمام عليهالسلام حرمة السمن أوالزيت الملاقي للفأرة بحرمة الميتة؟!
ولعلّ هذا الإشكال دعا بعضهم إلى تفسير «التحريم» في الروايةبـ «التنجيس».
- (1) الخابية: ما يحفظ ويستتر فيه الشيء، ويقال له بالفارسيّة: «خم». م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.
(صفحه136)
لكن يمكن الجواب عنه بأنّه يستفاد من هذا التعليل أنّ مورد الرواية هوالسمن أو الزيت الذي تفسّخ الفأرة فيه، بحيث اشتمل كلّ جزء منه على جزءمنها، فلا يمكن أكل شيء من السمن أو الزيت بدون أكل الميتة.
ووجه استفادة هذا المعنى من التعليل أنّه لابدّ في كلّ حديث من حفظظهور التعليل وحمل الحديث عليه، لا العكس.
إن قلت: ينفر طبع الإنسان عن سمن أوزيت تفسّخ الفأرة فيه ولو كانحلالاً، فكيف يمكن حمل الحديث على هذا المعنى؟!
قلت: شدّة الفقر وصعوبة العيش وقلّة الموادّ الغذائيّة في صدر الإسلامكانت تبلغ حدّا يوجب عدم تحرّز الإنسان عن كثير من الخبائث والمنفّرات،ويشهد عليه قول الراوي: «الفأرة أهون عليَّ من أن أترك طعامي لأجلها».
نعم، ينفر طبع الإنسان في هذا الزمان عن السمن الذي وقعت فيه الفأرةوإن لم تتفسّخ.
والحاصل: أنّ ما دلّ على نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ غير ما دلّ على نجاسةالملاقى ـ بالفتح ـ فلكلّ منهما حكم مستقلّ.
استحالة انكشاف شيء مرّتين
الثالث: أنّه إذا قامت بيّنة على خمريّة مائع مثلاً، ترتّب عليه جميع آثارالخمريّة، فلو قامت بيّنة اُخرى على خمريّته فلا أثر لها، لأنّ الحجّيّة والمنجّزيّةإنّما هي للبيّنة الاُولى، ولا يمكن الكشف والتنجيز في مورد واحد مرّتين، ولفرق في ذلك بين العلم والأمارة.
نعم، يمكن جعل حكم تعليقي للأمارة الثانية، مثل أن يقال: «الأمارة الثانيةكاشفة ومنجّزة وصالحة للاحتجاج لو لم تكن الأمارة الاُولى».