في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر
المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر
إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر فهل العقل يحكم بجريان البراءة أو بلزومالاحتياط؟ وماذا يقتضيه الاُصول الشرعيّة؟
قبل الشروع في البحث لابدّ من ذكر مقدّمتين لتحرير محلّ النزاع.
الفرق بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين والاستقلاليّين
الاُولى: الأقلّ والأكثر على قسمين: ارتباطي واستقلالي:
أمّا الأوّل: فهو أن يلاحظ الآمر مجموع اُمور منضمّة بعضها إلى بعضويأمر بها، بحيث يكون كلّ واحدٍ من هذه الاُمور مؤثّراً في تحقّق غرضالمولى حالة انضمامه مع الاُمور الاُخر، ولا يكون وحده ذا أثر أصلاً، كالصلاة،فإذا شككنا في جزئيّة شيء للصلاة يكون من مصاديق دوران الأمر بينالأقل والأكثر الارتباطيّين.
وأمّا الثاني: فهو أن يلاحظ اُموراً ويأمر بإتيانها، لكن لا يلاحظ الانضمام،بل كلّ واحد من هذه الاُمور يكون مأموراً به مستقلاًّ وذا أثر مستقلّ، بحيثلو أتى المكلّف ببعضها دون بعض آخر لأطاع بالنسبة إلى ما أتى به وعصىبالنسبة إلى ما تركه، مثل الصلوات المتعدّدة المأمور بها، فلو شككنا فيالصلوات الفائتة بين الخمس والستّ يكون من مصاديق الأقلّ والأكثرالاستقلاليّين.
(صفحه154)
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ البحث في الأقلّ والأكثر ينحصر في الارتباطيّين،لأنّ الدوران بين الاستقلاليّين لا يكون من موارد العلم الإجمالي، بل منموارد العلم التفصيلي والشكّ البدوي الذي تقدّم البحث عنه في البراءة؛ لا لأنّالعلم الإجمالي كان موجوداً ابتداءً ثمّ انحلّ إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي،بل الأمر بالعكس، فإنّ العلم الإجمالي هنا يحصل من ضمّ العلم التفصيلي إلىالشكّ البدوي.
صور الشكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين
الثانية: هذا البحث طويل الذيل، لأنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر تارةًيكون بسبب الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به(1)، واُخرى بسبب الشكّ فيشرطيّة شيء له(2)، وثالثةً بسبب الشكّ في أنّ المأمور به هو الجنس أو النوع،مثل أن نشكّ في أنّ المولى أمر بإطعام الحيوان أو الحيوان الناطق.
وللشكّ في الجنس والنوع مثال آخر خارج عن محلّ النزاع، وهو أن نشكّفي أنّ المولى أمر بإطعام الحيوان أو الإنسان، فإنّه من قبيل الدوران بينالمتباينين، لأنّ العرف يرى بينهما تبايناً، لأنّه إذا لاحظ الإنسان لا يخطر ببالهالحيوان أصلاً، فإنّ الإنسان وإن كان بنظر العقل مركّباً منه ومن الناطق إلاّ أنّهبنظر العرف مغاير ومباين للحيوان، بخلاف المثال الأوّل المذكور فيه الحيوانصريحاً، فإنّ العرف لا يقدر فيه أن لا يلاحظ الحيوان في ملاحظة النوع(3).
ورابعةً يكون الدوران بين الأقلّ والأكثر لأجل الشكّ في أنّ المأمور به هو
- (1) مع العلم بأنّه ليس بمانع عنه، أمّا لو شككنا في أنّه جزء له أو مانع عنه فهو من قبيل الدوران بينالمتباينين، لأنّ الجزئيّة في الماهيّة بشرط الشيء والمانعيّة في الماهيّة بشرط لا، والماهيّة بشرط الشيءوبشرط لا متباينتان. منه مدّ ظلّه.
- (2) مع العلم بأنّه ليس بمانع عنه. منه مدّ ظلّه.
- (3) وهو «الحيوان الناطق». م ح ـ ى.
ج5
الطبيعي أو حصّته.
كلام المحقّق العراقي في الدوران بين الطبيعي وحصّته
خلافاً للمحقّق العراقي رحمهالله حيث ذهب إلى أنّ الشكّ في الطبيعي وحصّتهليس من قبيل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، بل من قبيل الدوران بينالمتباينين، لأنّ الحصّة التي في زيد مثلاً من الإنسان غير الحصّة التي في عمرومنه وهكذا سائر الأفراد، فإذا شككنا في أنّ المولى أمر بإطعام الإنسان أوبإطعام زيد يكون من قبيل الدوران بين المتباينين(1).
نقد كلام المحقّق العراقي في المقام
لكنّ الظاهر أنّ الشكّ في الطبيعي وحصّته من قبيل الدوران بين الأقلّوالأكثر.
أمّا أوّلاً: فلأنّا لا نسلّم المغايرة بين الحصّة التي في زيد من الإنسان وبينالحصّة التي في عمرو، وإلاّ فما الفرق بين هذا وبين الشكّ في الجنس والنوع؟وقد ذهبتم في ذلك إلى أنّه من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر، فلو كانتالحصّتان مغايرتين في باب الطبيعي وحصّته لكانتا مغايرتين أيضاً في بابالجنس والنوع، فإنّ الحصّة التي في الإنسان من الحيوان غير الحصّة التي فيالبقر، وهكذا، فلا وجه للقول بدخول الأوّل في الدوران بين المتباينين والثانيفي الدوران بين الأقلّ والأكثر كما صنعه المحقّق العراقي رحمهالله .
وأمّا ثانياً: فلأنّه كما كان للشكّ بين الجنس والنوع مثالان: أحدهما كان منموارد الدوران بين الأقلّ والأكثر، والثاني من موارد الدوران بين المتباينين
- (1) نهاية الأفكار 3: 373.
(صفحه156)
فهاهنا أيضاً مثالان: أحدهما ما ذكره العراقي رحمهالله ، ونحن أيضاً نقول بخروجهعن الأقلّ والأكثر ودخوله في المتباينين، لأنّ العقلاء يرون التباين بينالإنسان وبين زيد، لأنّهم إذا لاحظوا زيداً لم يخطر ببالهم الإنسان، والمثالالثاني أن نشكّ في أنّ المولى أمر بإطعام الإنسان أو بإطعام الإنسان العالم، وقدفرضنا انحصار الإنسان العالم في زيد، وهذا المثال داخل في محلّ النزاعومصداق من مصاديق الدوران بين الأقلّ والأكثر.
والشبهة في الدوران بين الأقلّ والأكثر قد تكون وجوبيّة وقد تكونتحريميّة، وأيضاً تارةً تكون حكميّة واُخرى موضوعيّة، وأيضاً قد يكونالدوران بين الأقلّ والأكثر في نفس المأمور به وقد يكون في محصّله وسببه،كلّ ذلك داخل في محلّ النزاع.