فهاهنا أيضاً مثالان: أحدهما ما ذكره العراقي رحمهالله ، ونحن أيضاً نقول بخروجهعن الأقلّ والأكثر ودخوله في المتباينين، لأنّ العقلاء يرون التباين بينالإنسان وبين زيد، لأنّهم إذا لاحظوا زيداً لم يخطر ببالهم الإنسان، والمثالالثاني أن نشكّ في أنّ المولى أمر بإطعام الإنسان أو بإطعام الإنسان العالم، وقدفرضنا انحصار الإنسان العالم في زيد، وهذا المثال داخل في محلّ النزاعومصداق من مصاديق الدوران بين الأقلّ والأكثر.
والشبهة في الدوران بين الأقلّ والأكثر قد تكون وجوبيّة وقد تكونتحريميّة، وأيضاً تارةً تكون حكميّة واُخرى موضوعيّة، وأيضاً قد يكونالدوران بين الأقلّ والأكثر في نفس المأمور به وقد يكون في محصّله وسببه،كلّ ذلك داخل في محلّ النزاع.
البحث في دوران الأمر بين الجزئيّة وعدمه
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ للشكّ في الجزئيّة ثلاثة أقوال:
أ ـ جريان البراءة العقليّة والشرعيّة كلتيهما.
ب ـ عدم جريان واحدة منهما.
ج ـ التفصيل بين العقليّة والشرعيّة بالقول بجريان الثانية دون الاُولى.
فعلينا البحث في مقامين حتّى يتبيّن ما هو الحقّ من هذه الأقوال.
المقام الأوّل: في البراءة العقليّة
والظاهر أنّها تجري، وإثباته يتوقّف على تقديم اُمور:
الأوّل: أنّ المولى إذا أمر بمركّب أو نهى عنه فالتركيب في المأمور به والمنهيّعنه اعتباري.
توضيح ذلك: أنّ المركّب على قسمين: حقيقي، وهو الذي تفني الأجزاء فيهحقيقةً وتكسر صورتها لأجل تحقّقه واقعاً، واعتباري، وهو الذي تفنيالأجزاء فيه وتكسر صورتها لأجل تحقّقه اعتباراً، وإلاّ فبحسب الحقيقة لتكون صورتها قبل التركيب مغايرة لها بعده.
مثال الأوّل: معجون الطبيب، فإنّه يلاحظ أنّ الأثر الفلاني يترتّب علىالمعجون المركّب من أشياء خاصّة، فيركّبها بالاختلاط والامتزاج حتّى يصير
(صفحه158)
شيئاً واحداً ذا أثر مطلوب.
ومثال الثاني: الصلاة، فإنّ الشارع لاحظ أنّ الأثر المطلوب ـ مثل النهيعن الفحشاء والمنكر وغيره من الآثار ـ لا يحصل إلاّ بإتيان مجموع أشياءمختلفة منضمّة بعضها إلى بعض على الترتيب المخصوص، فهذه الأشياء معكونها من مقولات شتّى غير قابلة للاختلاط والامتزاج اعتبرها الشارع شيئواحداً لتحصيل الأثر الذي لا يحصل إلاّ بها.
فالمركّب الحقيقي والاعتباري يشاركان في جهة، وهي فناء الأجزاء فيهموعدم استقلالها بعد التركيب، فإنّه كما أنّ جزء المعجون لا يكون مستقلاًّ بعدالتركيب، كذلك الركوع الصلاتي أيضاً لا يكون مستقلاًّ بعد التركيب واعتبارهجزءً للصلاة، ولكنّهما يختلفان في جهة اُخرى، وهي أنّ الفناء في المركّبالحقيقي واقعي، وفي الاعتباري اعتباري.
الثاني: أنّ كيفيّة تحصّل المركّب في ذهن الآمر غالباً تكون عكس كيفيّةإتيانه في الخارج، بمعنى أنّ المكلّف إذا همَّ بإتيان مركّب، تتعلّق إرادته أوّلبوجوده الوحداني، غافلاً عن أجزائه وشرائطه، ثمّ ينتقل منه إليها، وتتولّدإرادات اُخرى متعلّقة بها على وجه يحصل المركّب منها، فإذا همّ بإتيان الصلاةتتعلّق إرادته أوّلاً بأصل طبيعتها من غير أن تتعلّق بالأجزاء، ويكون المحرّكللعبد الأمر المتعلّق بالطبيعة، ولمّا رأى أنّها لا تحصل إلاّ بإتيان أجزائهوشرائطها على طبق المقرّر الشرعي تتولّد إرادات تبعيّة له متعلّقة بها.
وأمّا الآمر إذا همَّ بتعليق الأمر بالمركّب فلابدّ له ـ غالباً ـ من تصوّرالأجزاء والشرائط أوّلاً مستقلاًّ، ثمّ ترتيبها حسب ما تقتضي المصلحة والملاكالنفس الأمريّين، ثمّ لحاظها على نعت الوحدة وإفناء الكثرات فيها، ليحصلالمركّب الاعتباري، ثمّ يجعلها موضوعاً للأمر ومتعلّقاً للإرادة، فالآمر ينتهي