ج5
فالأجزاء ليست مأموراً بها أصلاً حتّى نقول: الواجب مردّد بين الأقلّوالأكثر، بل الواجب هو الصلاة فقط، ولكن نشكّ في أنّ أجزائها هل هيتسعة مثلاً أو عشرة، والعقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الجزءالعاشر المشكوك فيه.
الإشكالات على جريان البراءة في المقام
لكن هاهنا إشكالات كثيرة دقيقة لابدّ من التفصّي عنها:
دعوى رجوع الأقلّ والأكثر إلى المتباينين وجوابه
الإشكال الأوّل: أنّ متعلّق التكليف في الأقلّ والأكثر مردّد بين المتباينين فيالواقع، لأنّ للمركّب الملتئم من الأقلّ صورةً غير صورة المركّب الملتئم منالأكثر، فحقيقة المأمور به على فرض أن يكون هو الأقلّ مباينة لحقيقته علىفرض أن يكون هو الأكثر، فيجب الاحتياط بإتيان الأكثر.
ويمكن الجواب عنه بوجهين:
الأوّل: أنّ المأمور به لو كان شيئاً متحصّلاً من الأجزاء لكان بين الصورتينتباين وتغاير، إذ المتحصّل من تسعة أجزاء مثلاً مباين للمتحصّل من عشرة،كما أنّ المعجون الذي يحصل من أربعة أشياء غير الذي يحصل من خمسة، لكنّلم نقل به، بل قلنا بأنّ نسبة المركّب المأمور به إلى أجزائه نسبة المجمل إلىالمفصّل، لا نسبة المتحصّل إلى المحصّل، إذ ليس للمركّب الاعتباري حقيقة غيرحقيقة أجزائه، فالصلاة المركّبة من تسعة أجزاء لا تكون مغايرة للصلاةالمركّبة من عشرة، بل الصلاة المركّبة من العشرة هي عين الصلاة المركّبة منالتسعة مع انضمام جزء عاشر إليها.
والشاهد على هذا أنّ السورة مثلاً جزء للذاكر لها وليست بجزء للناسي لها،
(صفحه164)
ومع ذلك لا تكون حقيقة الصلاة المأمور بها للذاكر غير حقيقة الصلاة المأموربها للناسي.
الثاني: أنّه لو كان الأقلّ والأكثر من قبيل المتباينين للزم الاحتياط بإتيانصلاتين: إحداهما: مركّبة من الأجزاء حتّى الجزء المشكوك فيه، ثانيتهما:مركّبة منها سواه، لا بإتيان الأكثر فقط.
هل المقام من قبيل الدوران بين الماهيّة اللابشرط وبشرط لا؟
الإشكال الثاني(1): أنّ وجوب الأقلّ مردّد بين المتباينين، إذ لو كان متعلّقالتكليف هو الأقلّ لكان من قبيل الماهيّة اللابشرط عن الزيادة، ولو كان هوالأكثر لكان من قبيل الماهيّة بشرط انضمامها إلى الزيادة، ولا ريب في مباينةالماهيّة بشرط الشيء للماهيّة اللابشرط، لأنّ كلاًّ منهما قسيم للآخر.
فوجوب الأقلّ إنّما يكون مردّداً بين المتباينين باعتبار اختلاف سنخيالوجوب الملحوظ لا بشرط أو بشرط شيء.
أقول: هذا المستشكل ـ كما تلاحظ كلامه ـ يقول بتباين الأقلّ المجرّدعن الزيادة مع الأقلّ المنضمّ إليها، ثمّ بتباين الوجوب المتعلّق بالأقلّ علىتقدير كونه مأموراً به فقط مع الوجوب المتعلّق به على تقدير كونه مأموراً بهبانضمام الزيادة المشكوكة، لكنّا نكتفي بالجواب عن الأوّل، لوضوح فسادالقول بتغاير الوجوبين، فنقول:
يرد عليه أوّلاً: الجواب الثاني عن الإشكال الأوّل، وهو أنّه يجب على هذالمستشكل القول بوجوب إتيان صلاتين: إحداهما: هي الأكثر، والاُخرى: هي
- (1) نسب هذا الإشكال إلى المحقّق صاحب الحاشية المفصّلة على المعالم أخي صاحب الفصول، لكن مفي الحاشية غير هذا الإشكال، وسيجيء البحث عنه، لكن هذا أيضاً منسوب إليه، وهذا الإشكال يتّحد معالأوّل مآلاً، وهو أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر يرجع إلى الدوران بين المتباينين. منه مدّ ظلّه.
ج5
الأقلّ، كما في المتباينين.
وثانياً: أنّ القول بكون الأقلّ ماهيّة بشرط شيء على تقدير كونالمشكوك جزءً للمأمور به، لا يستقيم، لأنّ البحث في جزئيّة المشكوك،لا في شرطيّته، وعلى تقدير كونه جزءً لا فرق بينه وبين الأجزاء المعلومة،فكما أنّه لا يصحّ التعبير عن الجزء المعلوم بالشرط لا يصحّ عن الجزءالمشكوك أيضاً، لأنّ الأجزاء كلّها في مرتبة واحدة، والعلم والشكّ لا يغيّرانالواقع.
وثالثاً: أنّ الماهيّة اللابشرط على قسمين: الماهيّة اللابشرط المقسمي،والماهيّة اللابشرط القسمي.
والماهيّة اللابشرط المقسمي: هي أن يكون الملحوظ نفس الماهيّة بما هيهي، من دون أن يلاحظ معها شيء آخر أصلاً، حتّى عدم لحاظ شيء آخر،وهذه على ثلاثة أقسام:
أ ـ الماهيّة بشرط الشيء، ب ـ الماهيّة بشرط لا، ج ـ الماهيّة اللابشرطالقسمي، وهي التي تكون ملحوظة بانضمام عدم لحاظ شيء آخر معها بنحويكون عدم لحاظ شيء آخر معها قيداً لها وملحوظاً معها.
فإن أراد المستشكل من الماهيّة اللابشرط، الماهيّة اللابشرط القسمي،سلّمنا وجود التباين بينها وبين الماهيّة بشرط الشيء، لكون كلّ منهما قسيمللآخر، ولكنّه لم يرد هذا المعنى من الماهيّة اللابشرط، بدليل قوله بتحقّقالاحتياط بإتيان الأكثر فقط ولا يجب على المكلّف إتيان صلاتين، فمراده منالماهيّة اللابشرط هي الماهيّة اللابشرط المقسمي، ولا تباين بينها وبين الماهيّةبشرط الشيء، كما هو واضح.
فالحاصل: أنّ الأقلّ متيقّن والزيادة مشكوك فيها، فيجب الإتيان بالأقلّ
(صفحه166)
وتجري البراءة العقليّة في الزيادة.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في رفع الإشكال
وقد أجاب المحقّق النائيني رحمهالله عن الإشكال بوجه آخر حيث قال:
إنّ الماهيّة لا بشرط والماهيّة بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لجامع بينهما، فإنّ التقابل بينهما ليس من تقابل التضادّ، بل من تقابل العدموالملكة، فإنّ الماهيّة لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيثيؤخذ العدم قيداً في الماهيّة، وإلاّ رجعت إلى الماهيّة بشرط لا، ويلزم تداخلأقسام الماهيّة، بل الماهيّة لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها لا لحاظالعدم، ومن هنا قلنا: إنّ الإطلاق ليس أمراً وجوديّاً، بل هو عبارة عن عدمذكر القيد، خلافاً لما ينسب إلى المشهور ـ كما ذكرنا تفصيله في مبحث المطلقوالمقيّد ـ فالماهيّة لا بشرط ليست مباينة بالهويّة والحقيقة للماهيّة بشرط شيءبحيث لا يوجد بينهما جامع، بل يجمعهما نفس الماهيّة، والتقابل بينهما إنّما يكونبمجرّد الاعتبار واللحاظ.
ففي ما نحن فيه، الأقلّ يكون متيقّن الاعتبار على كلّ حال، سواء لوحظالواجب لا بشرط أو بشرط شيء، فإنّ التغاير الاعتباري لا يوجب خروجالأقلّ عن كونه متيقّن الاعتبار(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في رفع الإشكال
ويرد عليه أوّلاً: أنّه أراد بـ «الماهيّة اللابشرط» الماهيّة اللابشرط المقسمي،على ما هو ظاهر كلامه، حيث قال: «فإنّ الماهيّة لا بشرط ليس معناها لحاظ
- (1) فوائد الاُصول 4: 154.
ج5
عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيداً في الماهيّة» فمقصوده هو الماهيّةاللابشرط المقسمي، ومع ذلك جعل نفس الماهيّة جامعة بينها وبين الماهيّةبشرط الشيء، إذ قال: «بل يجمعهما نفس الماهيّة» مع أنّ نفس الماهيّة هي عينالماهيّة اللابشرط المقسمي، لا الأعمّ منها ومن الماهيّة بشرط الشيء كيتكون جامعةً بينهما.
وثانياً: ما ذهب إليه من أنّ المتضادّين لا جامع بينهما غير صحيح، لأنّالمثال الواضح للضدّين هو السواد والبياض، واللون جامع بينهما.
وثالثاً: لا نسلّم أنّه كلّما كان الدوران بين العدم والملكة تجري البراءة،ألاترى أنّه لو علم العبد بأنّ المولى أمر بإكرام إنسان ولكن لم يعلم أنّه أمربإكرام إنسان أعمى وقال: «أكرم إنساناً أعمى» أو بإكرام إنسان بصير وقال:«أكرم إنساناً بصيراً» لوجب عليه الاحتياط بإكرام إنسانين: أحدهما بصير،والآخر أعمى، فإثبات أنّ بين الماهيّة اللابشرط وبشرط شيء تقابل العدموالملكة لا التضادّ غير كافٍ لإجراء البراءة.
ورابعاً: أنّ صدر كلامه لا يلائم ذيله، لأنّه قال في الصدر: التقابلبين الماهيّة اللابشرط وبشرط شيء تقابل العدم والملكة، وقال في الذيل:التقابل بينهما إنّما يكون بمجرّد الاعتبار، فإنّ هذين الكلامين لا يتلائمان؛ لأنّتقابل العدم والملكة من الاُمور الحقيقيّة، لا الاعتباريّة، فانظر إلى وجدانك،هل لا تجد فرقاً بين الأعمى والبصير واقعاً؟ هل الفرق بينهما في عالمالاعتبار؟!
الاُمور الاعتباريّة ـ كالزوجيّة ـ لا توجب أمراً واقعيّاً، ألاترى أنّالإنسان بعد التزويج لا يتغيّر بالنسبة إليه قبل التزويج ولكنّالشارع اعتبر الزوجيّة ورتّب عليها آثاراً مثل جواز النظر