(صفحه170)
العقاب بلا بيان، وأمّا الثاني فترك المأمور به بلا عذر، لأنّه لم يأت بالمأمور بهالواقعي ولا بما علم، فالفرق بينهما أنّ الأوّل تارك للمأمور به عن عذر،والثاني تارك له بلا عذر، فالأوّل لا يستحقّ العقوبة والثاني يستحقّها.
الثاني: أنّ ترتّب العقاب على الأقلّ وعدمه لا يرتبطان بالمقام، لعدم دورانانحلال العلم الإجمالي وعدمه مدارهما؛ إذ ليس البيان في قاعدة «قبح العقاببلا بيان» بمعنى بيان العقوبة، إذ ليس بيان العقاب على ترك المأمور به منوظائف الشارع، بل العقل هو الذي يحكم بترتّب العقاب على مخالفة الأمرالإلزامي، ألاترى أنّ المولى إذا أمر عبده بشيء وهو عصى يترتّب علىعصيانه استحقاق العقوبة، ولو عاقبه المولى لم يعدّ ظالماً وإن لم يبيّن العقابولا مقداره، فوظيفة الشارع بيان التكليف، وقولنا: «العقاب بلا بيان قبيح»يكون بمعنى «العقاب بلا بيان التكليف قبيح» والبيان من ناحية الشارعبالنسبة إلى الأقلّ موجود فرضاً، فإتيانه واجب على كلّ تقدير، ولكنّ البيانبالنسبة إلى الزيادة مفقود، فتجري البراءة فيها، فعدم ترتّب العقاب على تركالأقلّ على تقدير كونه واجباً غيريّاً لا يرتبط بما نحن فيه ولا يقدح في انحلالالعلم الإجمالي، فإنّ الأقلّ واجب تفصيلاً، فيجب الإتيان به، والزيادةمشكوكة، فتجري البراءة فيها.
إشكال المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
الإشكال الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله وبيّنه بتقريبين:
الأوّل: أنّ الامتثال تارةً: يكون علميّاً تفصيليّاً، واُخرى: علميّاً إجماليّاً،وثالثةً: ظنّيّاً، ورابعة: احتماليّاً، ويجوز الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي فيما إذا كانالتكليف محتملاً غير معلوم، وأمّا إذا كان التكليف معلوماً تفصيلاً أو إجمال
ج5
فلايجوز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي، بل العقل يحكم بلزوم الامتثالالعلمي، لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة، والإتيان بالأقلّ امتثالاحتمالي لا يكتفى به في المقام.
والعلم الإجمالي لا ينحلّ؛ لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ لا بشرط أوبشرط شيء عين العلم الإجمالي، والتعبير مختلف، لأنّ وجوب الأقلّ المعلومتفصيلاً أمره دائر بين كونه لا بشرط وبين كونه بشرط شيء، ومثل هذا العلمالتفصيلي يستحيل أن يوجب انحلال العلم الإجمالي، لأنّه يلزم أن يكون العلمالإجمالي موجباً لانحلال نفسه، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.
التقريب الثاني: أنّ للجزء المشكوك جهتين:
الاُولى: جهة لزوم الإتيان به من حيث هو، والعقل بالنسبة إلى هذه الجهةيحكم بالبراءة.
الثانية: جهة ارتباطيّته وقيديّته للأقلّ على تقدير جزئيّته بحيث لو أتىالمكلّف بالأقلّ فقط فكأنّه لم يأت شيئاً، والعقل لا يحكم بالبراءة بالنسبة إلىهذه الجهة، لأنّه لا يقدر على وضع الارتباطيّة والقيديّة ورفعهما، لأنّهما وظيفةالشارع، لا العقل، وحيث إنّه لا حكم للعقل من هذه الجهة فهو يحكم بلزومإتيان الأكثر ليقطع بامتثال التكليف المعلوم(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفي مقطعين من تقريبه الأوّل نظر:
أ ـ أنّ الاشتغال اليقيني وإن كان يستدعي الفراغ اليقيني، إلاّ أنّه يستدعيه
- (1) فوائد الاُصول 4: 159.
(صفحه172)
بقدر الاشتغال، لا أكثر، والاشتغال اليقيني فيما نحن فيه يتعلّق بالأقلّ فقط،وأمّا الزائد فلم يكن معلوماً، لأنّ الحجّة قائمة على وجوب الأقلّ، وأمّا الزيادةفهي مشكوكٌ فيها.
ب ـ أنّ ما ذهب إليه من عدم انحلال العلم الإجمالي في المقام مردود، أوّلاً:بأنّه مناقض لما تقدّم(1) منه في الجواب عن إشكال صاحب الحاشية، فإنّه قالهناك: «الأقلّ متيقّن الاعتبار على أيّ تقدير والزيادة مشكوك فيها»والتناقض بين هذين القولين واضح.
وثانياً: بأنّه ليس لنا علم إجمالي فيما نحن فيه كي يُقال: يلزم أن يكونموجباً لانحلال نفسه، بل من أوّل الأمر نعلم بوجوب الأقلّ تفصيلاً ونشكّ فيوجوب الزيادة، لكنّا إذا ضممنا ذلك العلم التفصيلي إلى هذا الشكّ البدويحصل لنا علم إجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، وتردّد وجوب الأقلّ بينكونه لا بشرط وبين كونه بشرط شيء لا يوجب بينهما تبايناً، لأنّ اللابشرطفي المقام عبارة عن اللابشرط المقسمي، ولا يعقل أن تكون هي مباينةً للماهيّةبشرط شيء، لأنّ الاُولى مقسم للثانية وقسيميها(2)، والمقسم في كلّ تقسيمأعمّ من قسمه لا مباينه.
والملاك لتحقّق العلم الإجمالي أنّ التكليف في كلّ من أطرافه لم يكن إلمحتملاً، والمقام ليس كذلك، لأنّ التكليف في الأقلّ يكون معلوماً لا محتملاً.
ولو لم تسلّم هذا الملاك لتحقّق العلم الإجمالي لأمكن أن يقال بتحقّقه فيالأقلّ والأكثر الاستقلاليّين أيضاً، لأنّا نعلم مثلاً بأنّ علينا ديناً لزيد، لكنّهمردّد بين مائة تومان وبين مائة وخمسين توماناً، والاشتغال اليقيني بالدين
- (2) وهما: الماهيّة بشرط لا، واللابشرط القسمي. م ح ـ ى.
ج5
يستدعي الفراغ اليقيني، فلو أعطيناه مائة تومان لم يحصل الفراغ اليقيني،فوجب الاحتياط بإعطاء الأكثر، ولم يقل أحد ولا أنتم بوجوب الاحتياط فيالأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، وليس سرّه إلاّ أنّه لم يكن لنا علم إجمالي، بل علمتفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي بالنسبة إلى الأكثر، لكن إذا ضممنا العلم إلىالشكّ حصل لنا علم إجمالي، وما نحن فيه ـ أعني: الأقلّ والأكثر الارتباطيّين أيضاً كذلك.
والجواب عن التقريب الثاني: أنّ قوله رحمهالله : «وضع الارتباطيّةوالقيديّة ورفعهما وظيفة الشارع، لا العقل» صحيح، ولكنّ البراءةالعقليّة ليست بمعنى حكم العقل برفع الارتباطيّة والقيديّة، بل بمعنى حكمالعقل بقبح العقاب بلا بيان، يعني حيث لم يبيّن الشارع ارتباط المشكوكبالأقلّ وتقييد الأقلّ به فلو اكتفينا بإتيان الأقل وكان المشكوك جزءاً فيالواقع لحكم العقل بقبح العقاب، لأنّه بلا بيان وحجّة، فكما أنّ العقل يحكمبقبح العقاب بلا بيان من جهة احتمال جزئيّة المشكوك يحكم أيضاً به من جهةاحتمال ارتباطيّته وقيديّته.
والحاصل: أنّ ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله غير تامّ أيضاً، ولا يمنع من إجراءالبراءة العقليّة في المقام.
كلام صاحب «هداية المسترشدين» في المسألة
الإشكال الخامس: ما أفاده المحقّق صاحب الحاشية الكبيرة على «المعالم»المسمّاة بـ «هداية المسترشدين» وهو شبيه بالإشكال الأوّل.
وحاصله: أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر يرجع إلى الدوران بين المتباينين،لأنّ الأقلّ غير موجود في الأكثر، بل الموجود فيه أجزاء الأقلّ، وأمّا نفس
(صفحه174)
الأقلّ منفرداً فله صورة غير صورته منضمّـاً إلى المشكوك، والحاصل منالأقلّ منفرداً مغاير للحاصل منه منضمّـاً إلى المشكوك، فالتكليف تعلّق مثلبالصلاة المردّدة بين الأقلّ والأكثر، وحيث إنّهما متغايران صورةً فالدورانيكون واقعاً بين المتباينين، فيجب الاحتياط بإتيان الأكثر، لأنّ الاشتغالاليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة.
وهذا الإشكال وإن كان يجري في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين أيضاً، فإنّصورة الأقلّ منفرداً غير صورته منضمّـاً إلى المشكوك، والحاصل من الأقلّغير الحاصل من الأكثر فيهما أيضاً.
لكن بينهما فرق، وهو أنّ الأقلّ متعلّق لغرض المولى في الاستقلاليّين قطعاً،لأنّه إمّا تمام غرضه أو بعضه، فبإتيانه يتحقّق غرض المولى إمّا بالجملة أو فيالجملة، بخلاف الارتباطيّين، فإنّ غرض المولى لم يتعلّق بالأقلّ أصلاً علىتقدير تعلّق التكليف بالأكثر، لأجل الارتباط، فبإتيان الأقلّ لا يتحقّقالغرض أصلاً، لا تمامه ولا في الجملة(1).
نقد ما أفاده المحقّق الشيخ محمّد تقي الاصفهاني في المقام
وفيه: أنّ ما ذكرنا في كيفيّة تركيب المركّبات الاعتباريّة ـ من أنّ الأجزاء فيلحاظ الوحدة مركّب ـ ليس المقصود منه أنّ المركّب الاعتباري له صورةاُخرى وحدانيّة تكون تلك الصورة نسبتها إلى الأجزاء نسبة المتحصّل إلىالمحصّل، ويكون الأمر متعلّقاً بالصورة التي هي حقيقة اُخرى وراء الأجزاء،حتّى يكون المتحصّل من عدّة أجزاء غير المتحصّل من عدّة اُخرى أكثر، بلليس للمركّب تحصّل إلاّ تحصّل الأجزاء، فهو هي، وهي هو، لكنّ العقل قد
- (1) هداية المسترشدين 3: 563.