ج5
يستدعي الفراغ اليقيني، فلو أعطيناه مائة تومان لم يحصل الفراغ اليقيني،فوجب الاحتياط بإعطاء الأكثر، ولم يقل أحد ولا أنتم بوجوب الاحتياط فيالأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، وليس سرّه إلاّ أنّه لم يكن لنا علم إجمالي، بل علمتفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي بالنسبة إلى الأكثر، لكن إذا ضممنا العلم إلىالشكّ حصل لنا علم إجمالي، وما نحن فيه ـ أعني: الأقلّ والأكثر الارتباطيّين أيضاً كذلك.
والجواب عن التقريب الثاني: أنّ قوله رحمهالله : «وضع الارتباطيّةوالقيديّة ورفعهما وظيفة الشارع، لا العقل» صحيح، ولكنّ البراءةالعقليّة ليست بمعنى حكم العقل برفع الارتباطيّة والقيديّة، بل بمعنى حكمالعقل بقبح العقاب بلا بيان، يعني حيث لم يبيّن الشارع ارتباط المشكوكبالأقلّ وتقييد الأقلّ به فلو اكتفينا بإتيان الأقل وكان المشكوك جزءاً فيالواقع لحكم العقل بقبح العقاب، لأنّه بلا بيان وحجّة، فكما أنّ العقل يحكمبقبح العقاب بلا بيان من جهة احتمال جزئيّة المشكوك يحكم أيضاً به من جهةاحتمال ارتباطيّته وقيديّته.
والحاصل: أنّ ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله غير تامّ أيضاً، ولا يمنع من إجراءالبراءة العقليّة في المقام.
كلام صاحب «هداية المسترشدين» في المسألة
الإشكال الخامس: ما أفاده المحقّق صاحب الحاشية الكبيرة على «المعالم»المسمّاة بـ «هداية المسترشدين» وهو شبيه بالإشكال الأوّل.
وحاصله: أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر يرجع إلى الدوران بين المتباينين،لأنّ الأقلّ غير موجود في الأكثر، بل الموجود فيه أجزاء الأقلّ، وأمّا نفس
(صفحه174)
الأقلّ منفرداً فله صورة غير صورته منضمّـاً إلى المشكوك، والحاصل منالأقلّ منفرداً مغاير للحاصل منه منضمّـاً إلى المشكوك، فالتكليف تعلّق مثلبالصلاة المردّدة بين الأقلّ والأكثر، وحيث إنّهما متغايران صورةً فالدورانيكون واقعاً بين المتباينين، فيجب الاحتياط بإتيان الأكثر، لأنّ الاشتغالاليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة.
وهذا الإشكال وإن كان يجري في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين أيضاً، فإنّصورة الأقلّ منفرداً غير صورته منضمّـاً إلى المشكوك، والحاصل من الأقلّغير الحاصل من الأكثر فيهما أيضاً.
لكن بينهما فرق، وهو أنّ الأقلّ متعلّق لغرض المولى في الاستقلاليّين قطعاً،لأنّه إمّا تمام غرضه أو بعضه، فبإتيانه يتحقّق غرض المولى إمّا بالجملة أو فيالجملة، بخلاف الارتباطيّين، فإنّ غرض المولى لم يتعلّق بالأقلّ أصلاً علىتقدير تعلّق التكليف بالأكثر، لأجل الارتباط، فبإتيان الأقلّ لا يتحقّقالغرض أصلاً، لا تمامه ولا في الجملة(1).
نقد ما أفاده المحقّق الشيخ محمّد تقي الاصفهاني في المقام
وفيه: أنّ ما ذكرنا في كيفيّة تركيب المركّبات الاعتباريّة ـ من أنّ الأجزاء فيلحاظ الوحدة مركّب ـ ليس المقصود منه أنّ المركّب الاعتباري له صورةاُخرى وحدانيّة تكون تلك الصورة نسبتها إلى الأجزاء نسبة المتحصّل إلىالمحصّل، ويكون الأمر متعلّقاً بالصورة التي هي حقيقة اُخرى وراء الأجزاء،حتّى يكون المتحصّل من عدّة أجزاء غير المتحصّل من عدّة اُخرى أكثر، بلليس للمركّب تحصّل إلاّ تحصّل الأجزاء، فهو هي، وهي هو، لكنّ العقل قد
- (1) هداية المسترشدين 3: 563.
ج5
يرى الأجزاء في لحاظ الوحدة، وقد يرى الكثرات، واختلاف ملاحظة العقللا يوجب اختلافاً جوهريّاً في الملحوظ.
وبالجملة: ليس الاختلاف بين الأقلّ والأكثر إلاّ بالأقلّيّة والأكثريّة لغير، فهما مشتركان في عدّة أجزاء، وممتازان في بعض أجزاء اُخرى، وليساختلافهما في الأجزاء الداخلة في الأقلّ، بل في الزيادة، ومجرّد لحاظ العقلللأجزاء بنحو الوحدة لا يوجب تباين الملحوظ لملحوظ آخر.
وبناءً على هذا فلا إشكال في أنّ الحجّة قائمة على وجوب إتيان الأقلّ،والزيادة مشكوك فيها لم تقم حجّة عليها.
هذا مضافاً إلى أنّ ما ذكره هذا المحقّق الكبير من إيجاب تباين الصورتينللاحتياط لازمه تكرار المركّب بإتيانه تارةً في صورة الأقلّ، واُخرى فيصورة الأكثر، ولا يكاد يكفي إتيان الأكثر كما لا يخفى، فالاتّفاق على جوازالاكتفاء بالأكثر شاهد لما قلناه، وهو أنّ صورة الأقلّ في ضمن الأكثر ليستمغايرة لصورته مستقلاًّ، وليس بين الأقلّ والأكثر تباين وتغاير، وإلاّ فلم يجزالاقتصار على الأكثر.
إشكال صاحب «الكفاية» على جريان البراءة العقليّة في المقام
الإشكال السادس: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية وقرّبه بتقريبين:
أ ـ أنّ انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بالأقلّ والشكّ البدويبالنسبة إلى الزائد وإجراء البراءة فيه مستلزم للخلف، لأنّ نتيجة القولبالانحلال تهدم مبنى القول بالانحلال، توضيحه: أنّ العلم التفصيلي بوجوبالأقلّ فعلاً إنّما يتحقّق إذا كان التكليف منجّزاً مطلقاً، سواء تعلّق بالأقلّ أوبالأكثر، وأمّا إن لم يكن منجّزاً على تقدير تعلّقه بالأكثر فلم يكن الأكثر واجب
(صفحه176)
نفسيّاً، فلم يكن الأقلّ واجباً غيريّاً، فلم يكن وجوبه الفعلي معلوماً بالتفصيل،فالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ فعلاً على كلّ تقدير مبنيّ على أنّ التكليف علىتقدير تعلّقه بالأكثر أيضاً يبلغ مرتبة التنجّز، مع أنّ العلم التفصيلي بوجوبالأقلّ فعلاً يقتضي جريان البراءة في الزائد المشكوك، ومعنى جريان البراءةفيه أنّ التكليف لو تعلّق بالأكثر لم يبلغ مرتبة التنجّز، فنتيجة القول بالانحلالتهدم مبنى نفسه، وهو خلف.
ب ـ أنّ الانحلال مستلزم للمحال، لأنّ وجوده مستلزم لعدمه، توضيحه:أنّ الانحلال هاهنا يكون بمعنى تحقّق العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ فعلوالشكّ البدوي بالنسبة إلى الأكثر، وهو يستلزم عدم تنجّز التكليف إلاّ إذكان متعلّقاً بالأقلّ، وهو يستلزم عدم وجوب الأقلّ على كلّ تقدير، وهويستلزم بقاء العلم الإجمالي، فيلزم من وجود الانحلال عدمه، وهو محال،فالانحلال المستلزم لذلك محال(1).
هذا توضيح ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
ويمكن تقريب كلامه بوجه ثالث أيضاً:
وهو أنّ العلم التفصيلي متولّد من العلم الإجمالي ومسبّب عنه، إذ لو لم يكنالعلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر لم يتحقّق العلم التفصيلي بوجوبالأقلّ، والمعلول لا يعقل أن يهدم علّته، لأنّ قوام المعلول بالعلّة، فلا يمكنانحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي هاهنا.
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المسألة
ويرد على ما ذكره من التقريبين للإشكال: أنّه مبنيّ على القول بالوجوب
ج5
الغيري المتعلّق بالأجزاء المترشّح من الوجوب النفسي المتعلّق بالمركّب، ونحنلا نقول به، فإنّ المقدّمة لا تكون واجبة بالوجوب الغيري، وإنّما الداعي إلىإتيانها حكم العقل بلزوم إتيانها. هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ النزاع في وجوب المقدّمة إنّما هو في المقدّمات الخارجيّة، وأمّالأجزاء فكثير من القائلين بوجوب المقدّمة قالوا بعدم وجوبها، بل بعضهمأنكر مقدّميّتها، ونحن وإن قلنا بمقدّميّة الأجزاء، إلاّ أنّا لم نقل بوجوبها الغيريالشرعي، ولا بلزومها العقلي، بل قلنا في مقدّمات هذا البحث: إنّ الداعي إلىإتيان الأجزاء هو الأمر بالمركّب، لأنّ المركّب هو الأجزاء(1).
وأمّا ما ذكرناه من التقريب الثالث: فجوابه أنّه ليس لنا علم إجمالي فيموارد الدوران بين الأقلّ والأكثر، بل نعلم تفصيلاً بوجوب الأقلّ ونشكّ فيوجوب الأكثر، لكنّا إذا ضممنا هذا العلم إلى هذا الشكّ يحصل لنا صورة علمإجمالي، فالعلم الإجمالي ليس علّة لتحقّق العلم التفصيلي حتّى يقال: كيف يعقلأن يزيل المعلول علّته ويبقى نفسه مع أنّ قوامه بها؟!
والحاصل: أنّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله من الإشكال لا يتمّ، لبالتقريبين المذكورين في كلامه، ولا بالتقريب الذي ذكرناه.
ما يقتضيه القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في المقام
الإشكال السابع: ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمهالله وأجاب عنه، لكنّ المحقّقالخراساني رحمهالله لم يرتض الجواب واعتمد على الإشكال.
وهو أنّ الأوامر والنواهي تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة في متعلّقاتهعند العدليّة(2)، وبعبارة اُخرى: الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات
- (2) وهم «المعتزلة» و «الإماميّة». منه مدّ ظلّه.