لا يقال: قد يكون الاحتياط موجباً لاختلال النظام، ولا شكّ في عدمحسن اختلال النظام، بل هو قبيح قطعاً، فحسن الاحتياط يتوقّف على عدماستلزامه له.
لأنّه يقال: الاحتياط حسن هاهنا أيضاً، والقبيح إنّما هو اختلال النظام، وليتداخل العنوانان حتّى يسري حكم أحدهما إلى الآخر، بل لو كان الاحتياط
مستلزماً لاختلال النظام دائماً لكان حسناً، فضلاً عن كونه مستلزماً له أحياناً.
وهذا نظير ما إذا نذر الإتيان بصلاة الليل، فإنّها لا تخرج بذلك عن كونهمستحبّة، لأنّ هاهنا عنوانين: أحدهما مستحبّ، وهو صلاة الليل، والآخرواجب، وهو الوفاء بالنذر.
وتظهر الثمرة في النيّة، فإنّه يجب عليه إتيانها بداعي الأمر الاستحبابيالمتعلّق بصلاة الليل.
إن قلت: يصدق عليها عنوان الوفاء بالنذر أيضاً، فلِمَ لا يأتي بها بداعيالأمر الوجوبي المتعلّق بالوفاء بالنذر؟
قلت: هذا الأمر الوجوبي توصّلي، فلا يصحّ إتيان العبادة بداعيه.
البحث حول ما ادّعي من الشبهات على الاحتياط
واُورد على صحّة العمل بالاحتياط إشكالات: بعضها يرتبط بمطلقالاحتياط حتّى في الشبهة البدويّة، وبعضها الآخر يختصّ بالاحتياط فيأطراف العلم الإجمالي، وبعضها الثالث بكيفيّة الاحتياط فيما قامت الأمارةالمعتبرة على خلافه، كأن قامت الأمارة على عدم وجوب صلاة الجمعة، لكنّالمكلّف يأتي بها، لأجل احتمال مخالفة الأمارة للواقع.
في توقّف العباديّة على صدق عنوان الإطاعة
أمّا الإشكال على مطلق الاحتياط فهو يختصّ بالعبادات، وهو أنّه لابدّ فيالعبادات من تحقّق الإطاعة، وهي عبارة عن الانبعاث الناشئ عن البعث،وبعبارة اُخرى: هي عبارة عن صيرورة العبد متحرّكاً بتحريك المولى، فليمكن أن يكون المأتيّ به احتياطاً عبادةً، لأنّه أتى به بداعي احتمال البعث،لا بداعي نفس البعث، ولا يكون الانبعاث ناشئاً عن البعث، سيّما في الشبهات
(صفحه330)
البدويّة، فلا تتحقّق الإطاعة بالعمل المأتيّ به احتياطاً كي يصدق عليه أنّهعبادة.
بل لا يمكن تحقّق الإطاعة في المعلوم بالتفصيل أيضاً، لأنّ الإتيان بالعملحينئذٍ يكون بداعي العلم بالبعث لا بداعي نفس البعث، لعدم استلزام العلم بهتحقّقه في الواقع، إذ يمكن أن يكون علمه جهلاً مركّباً، فإنّ بين العلم بشيءوتحقّقه في الواقع عموماً من وجه.
إن قلت: كيف يمكن التأثّر والانبعاث بالعلم المخالف للواقع؟
قلت: راجع إلى وجدانك، إن رأيت شَبَحاً من بعيد وقطعت أنّه سبع ـ وهوكان في الواقع شاةً ـ ألا تخاف منه ولا تتأثّر به؟
فالإطاعة لا تكاد تتحقّق أصلاً، لأنّ الانبعاث دائماً إمّا أن يكون ناشئاً عناحتمال البعث وإمّا أن يكون ناشئاً عن العلم به، سواء كان العلم مطابقاً للواقعأو مخالفاً.
نقد القول بلزوم صدق الإطاعة على العبادة
ويرد عليه أوّلاً: أنّه لا دليل على لزوم صدق عنوان الإطاعة بالمعنى المذكورفي العبادات.
إن قلت: قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(1)يكفي في الدلالة عليه.
قلت: لا يكون «الإطاعة» في هذه الآية بمعنى «الانبعاث الناشئ عنالبعث» لأنّه تعالى أمر بإطاعة الرسول واُولي الأمر أيضاً، ولا ريب في عدملزوم الإتيان بما أمر به الرسول صلىاللهعليهوآله وأولوا الأمر بداعي أمرها، لأنّ أوامرهم
ج5
توصّليّة لا تعبّديّة، ولا يكون الإطاعتان المذكورتان في الآية الشريفةمتغايرتين معناً، فلا تدلّ الآية على لزوم صدق عنوان الإطاعة ـ بالمعنىالمذكور في كلام المستشكل ـ في العبادات.
وثانياً: أنّ القول بعدم تحقّق الإطاعة في المعلوم بالتفصيل ـ سواء كان العلممطابقاً للواقع أم مخالفاً ـ فاسد؛ لأنّ العلم بالبعث إذا كان مطابقاً للواقع كانالانبعاث ناشئاً عن نفس البعث، لا عن العلم به.
إن قلت: المثال الذي ذكرناه ـ وهو الخوف والاضطراب برؤية شاة قطعبكونها سبعاً ـ دليل واضح على أنّ الانبعاث لا يكون ناشئاً إلاّ عن العلمبالبعث، فإنّ الخوف والاضطراب يتحقّق في هذا المثال قطعاً، مع عدم كونهسبعاً في الواقع.
قلت: كون الانبعاث ناشئاً عن العلم بالبعث فيما إذا كان العلم مخالفاً للواقعلا ينافي كونه ناشئاً عن نفس البعث فيما إذا كان مطابقاً له، فلو كان العلمبالبعث مخالفاً للواقع يكون منشأ الانبعاث العلم به، ولو كان موافقاً له يكونالمنشأ نفس البعث.
والشاهد على هذا أنّه يندم بعد كشف الخلاف في صورة المخالفة، فيقولمتأسّفاً: «جعلت نفسي في كلفة ومشقّة بلا جهة» بخلاف صورة الموافقة، فإنّهلا يندم على الانبعاث أبداً، فلو كان الانبعاث في كليهما معلولاً للعلم بالبعث لميكن للتفرقة بين الصورتين في الندامة وعدمها وجه، لأنّ العلم في كلتيهما كانموجوداً، فهذا شاهد على أنّ الانبعاث ناشٍ عن نفس البعث في صورة موافقةالعلم للواقع.
وبعبارة علميّة: يكون الانبعاث ناشئاً عن المعلوم بالعرض الذي هو نفسالواقع في صورة الموافقة، لا عن المعلوم بالذات الذي هو الصورة الذهنيّة