دعوى من خالفها معتذراً بعدم العلم بها.
وكذلك الأمر في الأحكام الشرعيّة، فإنّها ـ بعد تشريعها من قبل اللّه تعالىووحيها إلى نبيّه صلىاللهعليهوآله وتبيين ما كان مجملاً منها من قبل أوصيائه عليهمالسلام وإيصالهم عليهمالسلام إيّاها إلى الفقهاء(1) الذين كانوا بصدد كتابتها لمسلمي العصورالمتأخّرة ـ دوّنت في الاُصول الأوّليّة الكثيرة(2) المشتملة على كلمات الأئمّةالمعصومين عليهمالسلام .
ثمّ انتقلت منها إلى الاُصول الثانويّة، كالكتب الأربعة، ومنها إلى سائرالمجاميع الروائيّة، كوسائل الشيعة ومستدرك الوسائل.
فيصدق على الأحكام المندرجة في الكتاب وفي أحاديث الكتب الأربعةوسائر الاُصول المعتمدة التي بأيدينا أنّها بيان واصل.
فإذا شككنا مثلاً في وجوب شيء وعدمه فلا يجوز التمسّك بأصالة البراءةإلاّ بعد الفحص عن الدليل وعدم وجدانه في مظانّه كي يكون العقاب علىتركه ـ على فرض وجوبه واقعاً ـ عقاباً بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان.
دليل مَن أنكر وجوب الفحص في إجراء البراءة
وربما يستدلّ على عدم لزوم الفحص بأنّ البعث والزجر ما لم يكن معلوملا يصلح لأن يكون محرّكاً وباعثاً إلى المأمور به أو مانعاً وزاجراً عن المنهيّعنه(3).
- (1) كـ «زرارة، ومحمّد بن مسلم، وأبي بصير، وغيرهم» الذين كانوا يسألون الأئمّة عليهمالسلام عن مسائل لم يكونويبتلون بها نوعاً، بل كان غرضهم فهم أحكامها وكتابتها لتنتقل إلى العصور المتأخّرة عنهم. منه مدّ ظلّه.
- (2) واشتهرت بالاُصول الأربعمائة. م ح ـ ى.
- (3) ولذلك لو كان البعث أو الزجر متحقّقاً في الواقع لكنّ العبد كان جاهلاً به أو قاطعاً بعدمه لم يتحقّق منهالتحرّك والانبعاث أو الامتناع والانزجار، مع أنّ الباعثيّة والزاجريّة لو كانت مستندة إلى صرف البعثوالزجر لم يكن بين العلم به والجهل به والعلم بعدمه فرق. منه مدّ ظلّه.
(صفحه342)
ولو لم يصلح لذلك لم يكن منجّزاً للتكليف، لأنّ استحقاق العقوبة علىالمخالفة يتوقّف على وجود ما يصلح للباعثيّة والزاجريّة.
والبعث(1) في الشبهات الحكميّة البدويّة ليس بمعلوم، بل محتمل، والاحتماللا يكون حاكياً وكاشفاً عن الواقع، والبعث ما لم يكن معلوماً ومكشوفاً لميكن منجّزاً، فلا ملزم لوجوب الفحص بالرجوع إلى مظانّ وجود الحكمالواقعي، بل يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حتّى قبل الفحص.
نقد نظريّة مَن أنكر وجوب الفحص في المقام
وفيه أوّلاً: النقض بالروايات المعتبرة، فإنّها منجّزة للتكليف، ضرورة أنّالمكلّف لو خالفها ووقع في مخالفة التكليف الواقعي لاستحقّ العقوبة، مع أنّالروايات المعتبرة لا تفيد العلم غالباً، بل ربما لا توجب الظنّ، لأنّ حجّيّتها لتتوقّف على حصول الظنّ الشخصي، بل هي حجّة حتّى فيما إذا قام الظنّ علىخلافها، فلو توقّف تنجّز التكليف على حصول العلم به لما تنجّز علينالأحكام التي تدلّ عليها الأخبار المعتبرة، ولا يمكن الالتزام به، لكونهمستلزماً للغويّة حجّيّتها، فالقول بأنّ «البعث ما لم يكن معلوماً لم يكن منجّزاً»فاسد.
وثانياً: أنّ مسألة المنجّزيّة لا ترتبط بمسألة الباعثيّة والمحرّكيّة، فلا يصحّالقول بأنّ ما لا يصلح للباعثيّة ـ وهو التكليف غير المعلوم ـ لا يصلحللمنجّزيّة.
وذلك لأنّ التنجيز من الأحكام العقليّة، فإنّ العقل هو الذي يحكمباستحقاق العقوبة على المخالفة وعدم استحقاقها عليها.
- (1) نذكر البعث بعنوان المثال، وإلاّ فالبحث يعمّ الزجر أيضاً. منه مدّ ظلّه.
ج5
ولا ريب في أنّ المولى إذا كتب وظائف عبده في ورقة وجعلها في محفظةقرطاسيّة وسدّ باب تلك المحفظة وأرسلها إليه، يجب على العبد فتحها والنظرإلى تلك الورقة، ليقف على ما كتبه المولى فيها، ولو تساهل في ذلك ووقع فيمخالفة التكاليف الصادرة من قبل المولى، لاستحقّ عقوبته عقلاً، وليس لهالاعتذار بأنّي لم أكن عالماً بما في الورقة ولم أكن مكلّفاً بفتح باب المحفظة.
وكذلك الأمر في الشرعيّات، فإنّ من احتمل وجوب شيء شرعاً لا يجوزله تركه باستناد قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» من دون الرجوع إلى مثل كتابوسائل الشيعة ومطالبة حكمه الشرعي الواقعي، فإنّه لو تركه من دون الفحصوكان في الواقع واجباً، لاستحقّ العقوبة عند العقل.
والحاصل: أنّ البعث المحتمل وإن لم يكن صالحاً للباعثيّة إلاّ أنّه صالحللمنجّزيّة، فلا يجوز التمسّك بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبل الفحص، لأنّالمراد بـ «البيان» وإن كان هو البيان الواصل، إلاّ أنّ الوصول ـ في التكاليفالمتوجّهة إلى العموم ـ يتحقّق بمثل تدوينها في الجرائد الرسميّة إذا كانت منقبيل القوانين العقلائيّة، وبكتابتها في الكتب الأصليّة والمجاميع الروائيّة إذكانت من قبيل الأحكام الشرعيّة، فلابدّ قبل إجراء البراءة من الفحص فيمظانّ وجود الدليل على الأحكام الواقعيّة.
هل الاقتحام في الشبهات يستلزم الظلم على المولى؟
وقد يقرّر حكم العقل على وجوب الفحص بوجه آخر، وهو أنّ ارتكابالمشتبه إذا كان قبل الفحص عن الدليل كان ظلماً على المولى، والظلم قبيحمطلقاً، سيّما إذا وقع على المولى، ولا فرق في ذلك بين كون المشتبه حراماً فيالواقع أم لا.