ج5
بالصلاة التامّة على تقدير عصيان الأمر بالصلاة المقصورة.
نعم، بناءً على كفاية العزم على عصيان الأمر بالأهمّ في تعلّق الأمر بالمهمّيمكن تصوير الترتّب في المقام أيضاً.
والحاصل: أنّه لا يمكن التفصّي عن الإشكال بما التزم به الشيخ المحقّقكاشف الغطاء من الأمر الترتّبي، لامتناع الترتّب في المقام، ولو بنينا علىإمكانه في محلّه الذي هو مسألة الضدّ.
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
الجواب الثالث: ما أفاده المحقّق العراقي قدسسره فإنّه بعد بيان الإشكالقال:
ولكن يمكن الذبّ عن الإشكال بالالتزام بتعدّد المطلوب، بأن يكونالجامع بين القصر والتمام، وكذا الجهر والإخفات مشتملاً على مرتبة منالمصلحة الملزمة، ويكون لخصوصيّة القصريّة، وكذا الجهريّة مصلحة زائدةملزمة أيضاً، مع كون المأتيّ به الفاقد لتلك الخصوصيّة من جهة وفائه بمصلحةالجامع المتحقّق في ضمنه مفوّتاً للمصلحة الزائدة القائمة بالخصوصيّة القصريّةأو الجهريّة، بحيث لا يبقى مع استيفائها به مجال لتحصيل المصلحة الزائدةالقائمة بالخصوصيّة، وذلك أيضاً لا بمناط العلّيّة كي يلزم حرمته وفساده، بلبمناط المضادّة بين المصلحتين، ولو من جهة حدّيهما القائمين بالخصوصيّاتالمفردة للطبيعة، فإنّه بهذا البيان يمكن الجمع بين صحّة المأتيّ به في حال الجهلوتماميّته في الوفاء بالفريضة الفعليّة، وبين استحقاق العقوبة على ترك الواجب،حيث إنّ صحّة المأتيّ به وتماميّته إنّما هو لوفائه بمرتبة من المصلحة الملزمة
(صفحه378)
القائمة بالجامع المتحقّق في ضمنه وصيرورته بذلك مأموراً به بمرتبة من الأمرالمتعلّق بالجامع ضمناً.
وأمّا استحقاق العقاب فهو من جهة تفويته للمصلحة الزائدة القائمةبالخصوصيّة القصريّة، أو الجهريّة والإخفاتيّة(1)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه رحمهالله .
الفرق بين كلامي المحقّق العراقي والخراساني
وهذا وإن كان يقرب من جواب المحقّق الخراساني رحمهالله المتقدّم نقله منالكفاية، إلاّ أنّهما يفترقان من جهات ثلاث:
أ ـ أنّ المحقّق الخراساني قال بكون خصوص التمام ذا مصلحة ملزمة، لالجامع بينه وبين القصر، كما قال به المحقّق العراقي رحمهالله .
ب ـ أنّ المحقّق الخراساني قال بعدم إمكان استيفاء المصلحة الزائدة القائمةبالقصر لأجل التضادّ بينه وبين التمام، ولكنّ المحقّق العراقي قال به لا لذلك، بللأنّه لا يبقى مع استيفاء المصلحة المتحقّقة في الجامع مجال لتحصيل المصلحةالزائدة القائمة بالخصوصيّة(2)، وذلك لعدم تحقّق التضادّ بين الطبيعي وفرده.
ج ـ أنّ المحقّق الخراساني لم يقل بكون الصلاة التامّة مأموراً بها، بل هيمشتملة على مصلحة ملزمة من دون أن يتعلّق أمر بها، والمحقّق العراقي قالبكون الجامع مأموراً به.
حول نظريّة المحقّق العراقي رحمهالله
- (1) نهاية الأفكار 3: 483.
- (2) ويمكن تقريبه إلى الذهن بمثال عرفي، وهو أنّ المولى إذا كان عطشاناً، فطلب ماءً بارداً بنحو تعدّدالمطلوب، بأن يكون أصل الماء مطلوباً له، وكونه بارداً مطلوباً آخر، فإذا أحضر العبد ماءً غير بارد وشربهالمولى، لا يبقى بعد رفع عطشه به مجال لشرب الماء البارد الذي كان يرغب فيه أكثر من رغبته في أصلالماء. منه مدّ ظلّه.
ج5
أقول: صحّة هذا الجواب مبنيّ على صحّة تعلّق الأمر بالمطلق والمقيّدكليهما، ولا مانع منه إلاّ القول بتضادّ الأحكام الخمسة التكليفيّة والقول بتماثلهفيما إذا كان الحكمان من سنخ واحد، فإنّه كما لا يجوز اجتماع الضدّين، كذلك ليجوز اجتماع المثلين.
ولكنّا لا نقول بتضادّ الأحكام ولا بتماثلها.
والشاهد على هذا أنّه يمكن أن يأمر شخص بفعل شيء وينهى شخصآخر عنه، كما إذا أمر الوالد ولده بقتال العدوّ ونهته الوالدة عنه، مع أنّه لو كانبين الوجوب والحرمة، والأمر والنهي مضادّةٌ لامتنع جمعهما في موضوع واحدولو بإرادة شخصين، كما أنّ السواد والبياض الذين بينهما مضادّة حقيقيّة ليجتمعان في جسم واحد، وإن أراد شخص سواده وشخص آخر بياضه، فعلممن ذلك أنّ التضادّ الحقيقي الفلسفي إنّما يتحقّق في الاُمور الواقعيّة، وأمّا الاُمورالاعتباريّة التي منها الأحكام الخمسة فلا يتحقّق فيها التضادّ الفلسفي المانعمن اجتماعها.
إن قلت: فما المانع من أن تكون صلاة الجمعة مثلاً واجبة ومحرّمة؟
قلت: إنّما المانع منه عدم إمكان كونها ذات مصلحة ومحبوبة له تعالىوذاتمفسدة ومبغوضة له في آن واحد، لا التضادّ بين الأمر والنهي المتعلّقين بها.
فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره المحقّق العراقي رحمهالله في الجواب عن الإشكالأيضاً(1) تامّ، لعدم التماثل بين الأمرين المتعلّق أحدهما بالجامع بين القصروالتمام، والآخر بخصوص القصر.
هذا تمام الكلام في الشبهات الحكميّة، وقد عرفت عدم جريان البراءة فيهقبل الفحص.
- (1) أي كما كان كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في ذلك تامّاً. م ح ـ ى.
(صفحه380)
البحث حول الفحص في الشبهات الموضوعيّة
فهل الشبهات الموضوعيّة أيضاً كذلك أم لا؟
ولابدّ من التكلّم هاهنا تارةً في البراءة العقليّة، واُخرى في البراءة الشرعيّة:
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في ذلك
أمّا البراءة العقليّة ـ بناءً على جريانها في الشبهة الموضوعيّة(1) ـ : فسيّدنالاُستاذ الأعظم الإمام «مدَّ ظلّه العالي» ذهب إلى عدم جريانها قبل الفحص،حيث قال:
فالحقّ فيها عدم معذوريّة الجاهل قبل الفحص عند العقل والعقلاءوالوجدان، فلو قال المولى: «أكرم ضيفي» وشكّ العبد في أنّ زيداً ضيفه أو لا،فلايجوز له المساهلة بترك الفحص مع إمكانه، خصوصاً إذا كان رفع الشبهةسهلاً والمشتبه مهمّاً، وما قرع سمعك من معذوريّة الجاهل وقبح عقابه بلسبب وحجّة فإنّما هو فيما إذا لم يكن الجهل في معرض الزوال، أو لم يكن العبدمقصّراً في تحصيل أغراض مولاه.
نعم، بعدما استفرغ وسعه لكان لما ذكره من القاعدة مجال.
وعليه فملاك صحّة العقوبة هو عدم جريان الكبرى العقليّة قبل الفحصوالبحث(2).
إنتهى كلامه، وهو صحيح متين في البراءة العقليّة.
وأمّا البراءة الشرعيّة: فتارةً نبحث عنها بالنسبة إلى الشبهات التحريميّة،
- (1) فإنّه مختلف فيه، فقال بعضهم بالجريان، وبعض آخر بعدمه. منه مدّ ظلّه.
- (2) تهذيب الاُصول 3: 433.
ج5
واُخرى بالنسبة إلى الشبهات الوجوبيّة.
الشبهات التحريميّة وكلام الشيخ الأنصاري رحمهالله فيه
أمّا الشبهات التحريميّة: فذهب شيخنا الأعظم الأنصاري رحمهالله إلى أنّه لإشكال ولا خلاف ظاهراً في عدم وجوب الفحص فيها(1).
الحقّ في المسألة
أقول: نحن نسلّم تحقّق الإجماع في المقام، لاعتمادنا بناقله، وهو الشيخالأعظم، ولكنّه دليل لبّي لا إطلاق فيه، بل لابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منه،وهو في المقام ما إذا كان في الفحص مشقّة شديدة، وأمّا إذا كان رفع الشبهةبالفحص سهلاً ـ كما إذا أراد شرب مايع في دار زيد ولكنّه شكّ في أنّه ماء أوخمر مع حضور زيد عنده وإمكان رفع الشكّ بالسؤال عنه ـ فلم يعلم تحقّقالإجماع على عدم لزوم الفحص هاهنا وجريان «كلّ شيء هو لك حلال»(2)قبله.
نعم، إذا شكّ في الطهارة والنجاسة لا يجب عليه الفحص ولو كان سهلاً، بليجوز إجراء قاعدة الطهارة المستفادة من قوله عليهالسلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلمأنّه قذر»(3) حتّى فيما إذا أمكن رفع الشبهة بمجرّد النظر إلى المشكوك، كما إذعلم برطوبة ثوبه وشكّ في أنّه بول أو ماء، مع إمكان رفع الشكّ بالنظر إليه.
الشبهات الوجوبيّة وكلام المحقّق النائيني رحمهالله فيه
- (1) فرائد الاُصول 2: 441.
- (2) الكافي 5: 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 40.
- (3) وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.