(صفحه414)
والحاصل: أنّ إسناد الرفع إلى «ما استكرهوا عليه» ـ مع أنّ المرفوع واقعهو آثاره ـ لا يكون إلاّ مجازاً، وكون المتكلّم في مقام التشريع لا يوجب كونالاستعمال بنحو الحقيقة، إذ الشارع بما هو شارع لا يقدر على رفع أمر موجودتكويني.
تعدّد الوضع في الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار
الثاني: ما ذكره في المقدّمة الثانية: من أنّه لا يكون استعمال «بعت» وأمثالهفي الإنشاء تارةً وفي الإخبار اُخرى مرتبطاً بالوضع، بل بمداليل السياق.
فإنّ كلّ واحد من «بعت» و«بعنا» و«يعيد» ونظائرها مركّب من المادّةوالهيئة، فمادّة «بعت» هو «البيع»، ولا إشكال في كونه موضوعاً للمعنىالمصدري الذي يشترك فيه جميع مشتقّاته.
إنّما الإشكال في أنّ هيئته هل هي موضوعة أم لا؟ الظاهر بل المقطوع هوالأوّل، كيف يمكن أن تكون هيئة كلّ من مشتقّات «البيع» موضوعة لمعنى، إلهيئة المتكلّم وحده ومع الغير من فعل الماضي؟! هل يمكن الالتزام بأنّ هيئةالمتكلّم مهملة، لكن يعرف المراد منها بمعونة السياق؟!
فالأمر دائر بين كونها موضوعة لكلّ من الإنشاء والإخبار، فتارةً وضعتلـ «بعت» الإنشائي، واُخرى لـ «بعت» الإخباري، وبين كونها موضوعةللجامع بينهما، وهو مفهوم «بعت» مع قطع النظر عن صدوره في مقام الإخبارأو الإنشاء.
لكنّ الحقّ هو الأوّل حَسب تحقيقاتنا في وضع الحروف وما يلحق بها،فإنّا قلنا هناك بكون الوضع في الحروف عامّاً والموضوع له خاصّاً،خلافاً لما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من كون الموضوع له فيها ـ كالوضع
ج5
عامّاً.
والهيئات ممّا يلحق بالحروف في هذه الجهة، فالموضوع له فيها أيضاً لابدّمن أن يكون خاصّاً وجزئيّاً، مع أنّ الجامع بين شيئين لا يكون إلاّ كلّيّاً، فليمكن أن يكون الجامع بين الإخبار والإنشاء ممّا وضعت له هيئة «بعت» فيالمقام.
فتعيّن الأوّل، وهو كون «بعت» موضوعاً للإخبار تارةً، وللإنشاء اُخرى،مع حفظ كون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً في كلّ منهما، فإذا أراد الواضعوضعه للإخبار تصوّر مفهوم «بعت» الإخباري، لكن وَضَعَه لمصاديقه الواقعيّةالخارجيّة، وهي قول زيد في مقام الإخبار عن بيع داره: «بعت داري أمس»وقول عمرو في مقام الإخبار عن بيع كتابه: «بعت كتابي يوم الجمعة» وسائرموارد استعماله في مقام الإخبار، وكذلك الإنشاء، أعني أنّ الواضع إذا أرادوضعه للإنشاء تصوّر مفهوم «بعت» الإنشائي، لكن وضعه لمصاديقه الواقعيّةالخارجيّة، وأمثلته واضحة.
فالقول بكون استعمال «بعت» وأمثاله في الإنشاء والإخبار غير مرتبطبالوضع أصلاً ـ كما ذهب إليه المحققّق النائيني رحمهالله ـ غير صحيح.
منع كون الحكم الضرري علّة للضرر
الثالث: ما ذهب إليه: من أنّ الضرر معلول للحكم الضرري، ولو كانتكليفيّاً، لأنّ الواسطة ـ وهي الإطاعة ـ مقهورة ومعلولة للحكم، فالضررمسبّب عن الحكم الضرري، وإن كان بينهما واسطة.
فإنّه رحمهالله إن أراد من كون الحكم الضرري علّة للإطاعة: العلّيّة التامّة،فبطلانه واضح، لأنّه يستلزم عدم صدور عصيان من أحد أصلاً، إذ تخلّف
(صفحه416)
المعلول عن علّته التامّة محال.
وإن أراد: العلّيّة الناقصة، فهو أيضاً باطل، لأنّ الوجدان قاضٍ بأنّ الإطاعةمعلولة لتصوّر المكلّف أمر المولى، وتصوّره الثواب المترتّب على إيجاد المأموربه، والعقاب المترتّب على تركه، والعصيان معلول لتوانيه وجرأته على المولى،إمّا لرجاء عفوه، أو استخفاف عقابه، أو غير ذلك، لا أنّ الأمر والتكليفسبب ناقص للإطاعة، والمطيع يكمّله والعاصي يمنع عن تأثيره.
نعم، هو موضوع للإطاعة والعصيان، لأنّه لو لم يكن لم يتحقّق إطاعة ولعصيان أصلاً، وهذا القدر من الارتباط لا يكفي في العلّيّة، وإلاّ لكان نفسالمولى أيضاً علّةً، لأنّه لو لم يكن لم يأمر، فلم يتحقّق إطاعة ولا عصيان.
بل هذا القدر من الارتباط أضعف من ارتباط المعدّ بالنسبة إلى المعلول،لأنّ المعدّ يعين السبب في التأثير بإيجاد شرائطه ورفع موانعه، بخلاف الحكمالصادر من المولى، فإنّه لم يكن دخيلاً في تحقّق الإطاعة أصلاً.
مجازيّة إطلاق أحد العنوانين المتّحدين في الوجود على الآخر
الرابع: ما أفاده: من أنّ العنوانين إذا اتّحدا في الوجود ـ كالضرب والإيلام يطلق أحدهما على الآخر حقيقةً.
فإنّ اتّحاد العنوانين في الوجود لا يستلزم الاتّحاد في مفهومهما، مع أنّ مسألةالحقيقة والمجاز مرتبطة باستعمال اللفظ في مفهومه وفي غير مفهومه.
ولو كان الاتّحاد في الوجود مصحّحاً لإطلاق أحد اللفظين على الآخرحقيقةً لجاز إطلاق «الإنسان» وإرادة «الضاحك» كذلك، لكونهما متّحدينوجوداً دائماً، مع أنّه لا يجوز قطعاً، ألا ترى أنّ تفسير قوله تعالى: «لَيْسَلِلاْءِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى»(1) بقولك: «ليسللضاحك(2) إلاّ ماسعى» كاذب وخطأ؟
ج5
وأيضاً لو كان الاتّحاد في الوجود ـ ولو أحياناً ـ كذلك، لجاز إطلاق لفظ«الصلاة» وإرادة «الغصب» حقيقةً، لاتّحادهما وجوداً أحياناً، مع أنّ بطلانهواضح، ألا ترى أنّ تفسير قوله عليهالسلام : «الصلاة معراج المؤمن»(1) بقولك:«الغصب معراج المؤمن» مضحك غير معقول؟
فلا يوجب الاتّحاد في الوجود صحّة إطلاق أحد العنوانين على الآخرحقيقةً، سواء كانا متّحدين دائماً أو أحياناً.
وأمّا قوله رحمهالله في طيّ كلامه: «وأمّا مثل القتل أو الإيلام المترتّب علىالضرب فإطلاق أحدهما على الآخر شائع متعارف»(2) فجوابه أنّ الإطلاقوالاستعمال أعمّ من الحقيقة، فلا يثبت به مدّعاه.
وبالجملة: لا يمكن القول بالحقيقة في حديث «لا ضرر».
القول في كيفيّة المجاز في الحديث
فلابدّ من القول بالمجاز، إمّا بنحو الحقيقة الادّعائيّة، أو إطلاق المسبّب علىالسبب، أو بنحو المجاز في الحذف، فينبغي البحث في أنّ أيّ وجه من هذهالوجوه الثلاثة صحيح.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في توجيه الحقيقة الادّعائيّة في الحديث
- (2) أقول: في قياس المقام بهذا المثال وما سيأتي من مسألة «الصلاة» و«الغصب» إشكال، لأنّ المحقّقالنائيني شرط أن يكون أحد العنوانين سبباً للآخر، والمثالان ليسا كذلك، ولكنّ المناقشة في المثال ليسمن دأب المحصّلين، بعد أن كان أصل الإشكال ـ وهو أنّ الاتّحاد في الوجود لا يصحّح إطلاق أحدالعنوانين على الآخر حقيقةً ـ دقيقاً متيناً. م ح ـ ى.
- (3) بحار الأنوار 81 : 255، كتاب الصلاة، الباب 38، باب آداب الصلاة، ذيل الحديث 52.
- (4) منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 208.
(صفحه418)
ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى الأوّل حيث قال: الظاهر أن يكون «لا» لنفيالحقيقة كما هو الأصل في هذا التركيب، لكن نفي الحقيقة تارةً يكون بنحوالحقيقة، مثل «لا رجل في الدار» واُخرى بنحو الادّعاء كناية عن نفي الآثار،كما هو الظاهر من مثل «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(1) و«يا أشباهالرجال ولا رجال»(2)، فالمنفيّ في هذين الخبرين نفس «الصلاة» و«الرجال»لكن ادّعاءً بملاك نفي الآثار، إذ لا تكون الصلاة في الدار معراجاً ومقرّبةً إلى اللّهبالمرتبة الكاملة لجار المسجد، فليست منشأً للآثار المترتّبة على الصلاة، وهيكونها «معراج المؤمن» و«قربان كلّ تقيّ» و«ناهية عن الفحشاء والمنكر»بالمرتبة الكاملة، والرجال الذين يفرّون من الحرب وقتال العدوّ أيضاً ليسومنشأً للآثار المترقّبة من الرجل، وهي الشجاعة والشهامة والمقاومة أمامالعدوّ ونحوها.
فالمنفيّ هو نفس الصلاة والرجال، لكن ادّعاءً بملاك فقدان الآثار.
إن قلت: ما الفرق بين نفي الآثار مجازاً ونفي ذيها ادّعاءً بملاكهوكناية عنها؟
قلت: الفرق بينهما أنّ الثاني آكد من الأوّل وأنسب بالبلاغة، فإنّ قضيّةالبلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً، لا نفي الحكم والصفة كما لا يخفى،ونفي الحقيقة ادّعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداءً مجازاً فيالتقدير أو في الكلمة ممّا لا يخفى على مَن له معرفة بالبلاغة(3).
هذا محصّل كلامه رحمهالله مع توضيح منّا.
وزاد على ذلك في حاشيته على الرسائل: أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ول
- (1) مستدرك الوسائل 3: 356، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 1.
- (2) نهج البلاغة: 70، الخطبة 27.