(صفحه420)
الغبني مثلاً منفيّان، لأنّهما يكونان منشأً للضرر.
الإشكال في المقام بلزوم تخصيص الأكثر
واُورد عليه بأنّ في الإسلام أحكاماً ضرريّة تكليفيّة ووضعيّة، ولا يمكنشمول الحديث لها، مثل وجوب الخمس، والزكاة، والجهاد، والحكم بالضمان إذأتلف مال الغير، بل إذا تلف من غير إفراط وتفريط فيما إذا كانت يده عدوانيّة،والحكم بكون تلف المبيع قبل قبضه من مال بايعه ـ مع أنّه لا شكّ في أنّالحكم بانفساخ البيع بمجرّد تلف المبيع في يد البائع من دون إفراط وتفريطوبكون التلف من ماله لا يكون إلاّ ضرريّاً، فإنّ البايع يتضرّر من ناحية هذالحكم ـ والحكم بعدم ماليّة الخمر والخنزير وحرمة التجارة بهما مع أنّ فيهممنافع كثيرة للناس، والحكم بإجراء الحدود والتعزيرات، وغير ذلك منالأحكام الضرريّة التي لا يمكن نفيها بحديث «لا ضرر».
وتخصيص الحديث بها يستلزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن.
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في حلّ الإشكال
وأجاب الشيخ الأعظم قدسسره عنه بأنّ تخصيص الأكثر على قسمين:
أ ـ أن يكون الإخراج بعنوان عامّ جامع للأفراد الخارجة، نحو «أكرمالناس» و«لا تكرم الفسّاق».
ب ـ أن لا يكون كذلك، بل كان كلّ فرد خارجاً بعنوان خاصّ، كما إذقال: «أكرم العلماء» وكان كلّهم خمسين مثلاً، ثمّ أخرج منه زيداً وعمراً و...حتّى لا يبقى تحته إلاّ عشرون، والمستهجن من تخصيص الأكثر هو هذا القسمالثاني، لا الأوّل.
إن قلت: ما الجامع بين هذه الأحكام الكثيرة الخارجة عن تحت حديث
ج5
«لا ضرر» في المقام؟
قلت: لا يلزم العلم بالجامع تفصيلاً، فإنّا إذا لاحظنا حديث الضرروخروج هذه الأحكام الضرريّة الكثيرة عن تحته نعلم إجمالاً أنّ فوقها عنوانعامّاً جامعاً لها، وهذا كافٍ في صحّة تخصيص الأكثر وعدم استهجانه(1).
هذا حاصل ما أفاده الشيخ الأعظم رحمهالله في الجواب عن الإشكال.
مناقشة المحقّق النائيني فيما أجاب به الشيخ الأنصاري
واستشكل المحقّق النائيني رحمهالله في هذا الجواب، ثمّ أجاب عن الإشكال بوجهآخر.
أمّا إشكاله على الشيخ فهو مشتمل على مقدّمة ونتيجة:
فقال: إنّ العمومات على قسمين: قسم يرد على الأفراد الخارجيّة، وقسميرد على الأفراد المقدّر وجودها الذي يعبَّر عنه بالقضيّة الحقيقيّة، والملاك فيالخارجيّة ورود الحكم على كلّ شخص شخص من الأفراد ابتداءً بلا جامعبينها بحسب الملاك، وإنّما الجامع بينها دخولها تحت لفظ واحد وصحّة إيرادهفي قالب واحد، مثل «كلّ من كان في المحبس محكوم بالإعدام»(2)، فإنّ شمولالعامّ لبعضهم بملاك النفاق، ولبعضهم الآخر بملاك الزنا المحصنة، ولبعضهمالثالث بملاك القتل، وهكذا، والملاك في القضيّة الحقيقيّة أن يرد الحكم علىالطبيعة، وبلحاظ انطباقها على الأفراد يشمل الحكم للأفراد، فلا نظر فيالحقيقيّة إلى الأفراد، مثل «يجوز الاقتداء بكلّ عادل».
- (1) فرائد الاُصول 2: 465.
- (2) مثّل المحقّق النائيني رحمهالله للقضيّة الخارجيّة بقوله: «قتل من في العسكر» و«نهب ما في الدار» لكنّ الاُستاذالمحاضر آية اللّه الفاضل«مدّ ظلّه» بدّلهما بما ذكره من المثال، لأجل كونه أوضح لمرام هذا المحقّقالكبير رحمهالله . م ح ـ ى.
(صفحه422)
فالعامّ الموجود في القضايا الخارجيّة لا يكون إلاّ جامعاً لفظيّاً بين أفراده،بخلاف العامّ الموجود في القضايا الحقيقيّة، فإنّه جامع معنوي واقعي.
هذا بالنسبة إلى العامّ.
ثمّ إنّ التخصيص الوارد على القضايا الحقيقيّة على قسمين: قسم يوجبالتصرّف في كبرى(1) الحكم، وهو إذا كان الإخراج بعنوان واحد، وقسميوجب التصرّف في كلّيّة الكبرى(2)، وهو إذا كان التخصيص بملاكات عديدة،فإذا قال: «أكرم كلّ عالم» فإن خصّصه بقوله: «لا تكرم الفسّاق من العلماء»كان من قبيل الأوّل، وكان حاصل الدليلين: «أكرم كلّ عالم غير فاسق»، وإنخصّصه بقوله: «لا تكرم زيداً العالم» و«لا تكرم عمراً العالم» وهكذا، كانمن قبيل الثاني.
وأمّا التخصيص المتوجّه إلى القضيّة الخارجيّة فيكون مضيّقاً لدائرة الأداةوكلّيّة الكبرى دائماً، ولا يمكن هاهنا أن يكون الإخراج تقييداً لمدخول «كلّ»ولنفس الكبرى.
فإن كان الإخراج تضييقاً لدائرة الكبرى ـ وهو القسم الأوّل من تخصيصالقضيّة الحقيقيّة ـ لم يكن مستهجناً، ولو كان الخارج أكثر أفراد العامّ، وإن كانتضييقاً لدائرة كلّيّة الكبرى ـ وهو القسم الثاني من تخصيص القضيّة الحقيقيّة،والتخصيص المتوجّه إلى القضيّة الخارجيّة ـ كان مستهجناً إذا استلزم تخصيصالأكثر.
وتفصيل ذلك راجع إلى باب العامّ والخاصّ، وإجماله: أنّ العامّ من جهة
- (1 ، 3) أراد المحقّق النائيني رحمهالله بـ «الكبرى»: ما دخل عليه أداة العموم، وبـ «كلّيّة الكبرى»: نفس الأداة.م ح ـ ى.
ج5
المدخول نظير المطلق، أي توسعة المدخول وتضييقه إنّما هما بمقدّمات الحكمة،لأنّ أداة العموم وضعت لكلّيّة الكبرى، وأمّا الكبرى ما هي؟ فليست الأداةموضوعة لتعيينها، فكلّ ما اُريد من المدخول فالأداة دالّة على عمومه، فالعامّمن هذه الجهة نظير المطلق، وإن كان بينهما فرق في إحراز كون المتكلّم بصددالبيان، فإنّه يحرز في باب المطلق بقرينة الحال، بخلاف باب العامّ، فإنّه يحرزبنفس الأداة، فالتخصيص لو كان من قبيل العناوين فهو موجب لتقييدالمدخول، كما لو قيل: «أكرم العالم العادل»، أو قيل بالدليل المنفصل: «لا تكرمفسّاقهم»، فإنّ موضوع الحكم يصير مقيّداً بالعدالة، ويصير عنوان العامّ أحدجزئي الموضوع، والجزء الآخر هو القيد الناشئ من التخصيص، ولذا لا يجوزالتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، لأنّ عنوان العامّ ليس هو تمام الموضوعللحكم، وأمّا لو كان أفراديّاً فلو علم أنّ خروج هذه الأفراد بجامع واحد فهوأيضاً موجب للتصرّف في الكبرى، ولو لم يعلم فهو موجب للتصرّف فيالأداة، أي في كلّيّة الكبرى من دون تصرّف في مدخولها، أي في الكبرى، هذفي القضايا الحقيقيّة، وأمّا التخصيص الوارد في القضايا الخارجيّة فحيث إنّالأفراد لا جامع بينها فلا كبرى في البين حتّى يرد التخصيص عليها، فلا محالةيرجع إلى أداة العموم، فلو خرج أفراد كثيرة من قوله: «كلّ من كان فيالمحبس محكوم بالإعدام» يصير التخصيص مستهجناً.
وحيث إنّ قاعدة «لا ضرر» من قبيل العمومات الواردة على الأفرادالخارجيّة، فإنّ المنفيّ هو الضرر الناشئ من الأحكام المجعولة في الخارج،فكثرة الخارج أيضاً مستهجن، ولو كان الإخراج بعنوان واحد، وبالجملة: فيالقضايا الخارجيّة لا فرق بين كثرة الإخراج وكثرة الخارج، فما أفاده الشيخالأنصاري قدسسره في المقام لا يرفع الإشكال(1).
(صفحه424)
هذا ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله ردّاً على كلام الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله .
نقد ما استشكل به المحقّق النائيني على كلام الشيخ الأعظم
ويرد عليه أنّا لا نسلّم الفرق الذي ذكره في المقدّمة بين القضايا الحقيقيّةوالخارجيّة، وهو شمول العامّ أفراده في الاُولى بملاك واحد، وفي الثانية بملاكاتمتعدّدة، إذ لا فرق بينهما عندنا إلاّ في سعة الاُولى وضيق الثانية، فإنّ القضايالحقيقيّة ذات أفراد محقّقة الوجود ومقدّرة الوجود، بخلاف القضايا الخارجيّةالتي تختصّ بما هو محقّق الوجود من الأفراد.
على أنّ الفرق المذكور ـ على فرض تسليمه ـ يقتضي كون حديث الضررقضيّة حقيقيّة لا خارجيّة، إذ شموله للأحكام الضرريّة ـ سواء كانتتكليفيّة أو وضعيّة ـ لا يكون إلاّ بملاك واحد، وهو «الضرر»، ألا ترى أنّهينفي وجوب الوضوء الضرري لأجل كونه ضرريّاً، ولزوم البيع الغبني أيضلذلك.
فالحديث لا يكون قضيّة خارجيّة حتّى يكون إخراج أكثر أفرادهمستهجناً، بل قضيّة حقيقيّة، ولا استهجان عند هذا المحقّق الكبير في تخصيصأكثر أفرادها إذا كان التخصيص بعنوان واحد، والشيخ رحمهالله ادّعى كونه بعنوانواحد، وإن لم نعرفه تفصيلاً، فلا يرد عليه الإشكال.
الحقّ في مناقشة كلام الشيخ رحمهالله
نعم، يرد عليه إشكال آخر، وهو أنّه لا فرق عرفاً في استهجان تخصيصالأكثر بين كونه بعنوان واحد جامع للأفراد الخارجة وبين كونه بعناوين
- (1) منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 210.