(صفحه422)
فالعامّ الموجود في القضايا الخارجيّة لا يكون إلاّ جامعاً لفظيّاً بين أفراده،بخلاف العامّ الموجود في القضايا الحقيقيّة، فإنّه جامع معنوي واقعي.
هذا بالنسبة إلى العامّ.
ثمّ إنّ التخصيص الوارد على القضايا الحقيقيّة على قسمين: قسم يوجبالتصرّف في كبرى(1) الحكم، وهو إذا كان الإخراج بعنوان واحد، وقسميوجب التصرّف في كلّيّة الكبرى(2)، وهو إذا كان التخصيص بملاكات عديدة،فإذا قال: «أكرم كلّ عالم» فإن خصّصه بقوله: «لا تكرم الفسّاق من العلماء»كان من قبيل الأوّل، وكان حاصل الدليلين: «أكرم كلّ عالم غير فاسق»، وإنخصّصه بقوله: «لا تكرم زيداً العالم» و«لا تكرم عمراً العالم» وهكذا، كانمن قبيل الثاني.
وأمّا التخصيص المتوجّه إلى القضيّة الخارجيّة فيكون مضيّقاً لدائرة الأداةوكلّيّة الكبرى دائماً، ولا يمكن هاهنا أن يكون الإخراج تقييداً لمدخول «كلّ»ولنفس الكبرى.
فإن كان الإخراج تضييقاً لدائرة الكبرى ـ وهو القسم الأوّل من تخصيصالقضيّة الحقيقيّة ـ لم يكن مستهجناً، ولو كان الخارج أكثر أفراد العامّ، وإن كانتضييقاً لدائرة كلّيّة الكبرى ـ وهو القسم الثاني من تخصيص القضيّة الحقيقيّة،والتخصيص المتوجّه إلى القضيّة الخارجيّة ـ كان مستهجناً إذا استلزم تخصيصالأكثر.
وتفصيل ذلك راجع إلى باب العامّ والخاصّ، وإجماله: أنّ العامّ من جهة
- (1 ، 3) أراد المحقّق النائيني رحمهالله بـ «الكبرى»: ما دخل عليه أداة العموم، وبـ «كلّيّة الكبرى»: نفس الأداة.م ح ـ ى.
ج5
المدخول نظير المطلق، أي توسعة المدخول وتضييقه إنّما هما بمقدّمات الحكمة،لأنّ أداة العموم وضعت لكلّيّة الكبرى، وأمّا الكبرى ما هي؟ فليست الأداةموضوعة لتعيينها، فكلّ ما اُريد من المدخول فالأداة دالّة على عمومه، فالعامّمن هذه الجهة نظير المطلق، وإن كان بينهما فرق في إحراز كون المتكلّم بصددالبيان، فإنّه يحرز في باب المطلق بقرينة الحال، بخلاف باب العامّ، فإنّه يحرزبنفس الأداة، فالتخصيص لو كان من قبيل العناوين فهو موجب لتقييدالمدخول، كما لو قيل: «أكرم العالم العادل»، أو قيل بالدليل المنفصل: «لا تكرمفسّاقهم»، فإنّ موضوع الحكم يصير مقيّداً بالعدالة، ويصير عنوان العامّ أحدجزئي الموضوع، والجزء الآخر هو القيد الناشئ من التخصيص، ولذا لا يجوزالتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، لأنّ عنوان العامّ ليس هو تمام الموضوعللحكم، وأمّا لو كان أفراديّاً فلو علم أنّ خروج هذه الأفراد بجامع واحد فهوأيضاً موجب للتصرّف في الكبرى، ولو لم يعلم فهو موجب للتصرّف فيالأداة، أي في كلّيّة الكبرى من دون تصرّف في مدخولها، أي في الكبرى، هذفي القضايا الحقيقيّة، وأمّا التخصيص الوارد في القضايا الخارجيّة فحيث إنّالأفراد لا جامع بينها فلا كبرى في البين حتّى يرد التخصيص عليها، فلا محالةيرجع إلى أداة العموم، فلو خرج أفراد كثيرة من قوله: «كلّ من كان فيالمحبس محكوم بالإعدام» يصير التخصيص مستهجناً.
وحيث إنّ قاعدة «لا ضرر» من قبيل العمومات الواردة على الأفرادالخارجيّة، فإنّ المنفيّ هو الضرر الناشئ من الأحكام المجعولة في الخارج،فكثرة الخارج أيضاً مستهجن، ولو كان الإخراج بعنوان واحد، وبالجملة: فيالقضايا الخارجيّة لا فرق بين كثرة الإخراج وكثرة الخارج، فما أفاده الشيخالأنصاري قدسسره في المقام لا يرفع الإشكال(1).
(صفحه424)
هذا ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله ردّاً على كلام الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله .
نقد ما استشكل به المحقّق النائيني على كلام الشيخ الأعظم
ويرد عليه أنّا لا نسلّم الفرق الذي ذكره في المقدّمة بين القضايا الحقيقيّةوالخارجيّة، وهو شمول العامّ أفراده في الاُولى بملاك واحد، وفي الثانية بملاكاتمتعدّدة، إذ لا فرق بينهما عندنا إلاّ في سعة الاُولى وضيق الثانية، فإنّ القضايالحقيقيّة ذات أفراد محقّقة الوجود ومقدّرة الوجود، بخلاف القضايا الخارجيّةالتي تختصّ بما هو محقّق الوجود من الأفراد.
على أنّ الفرق المذكور ـ على فرض تسليمه ـ يقتضي كون حديث الضررقضيّة حقيقيّة لا خارجيّة، إذ شموله للأحكام الضرريّة ـ سواء كانتتكليفيّة أو وضعيّة ـ لا يكون إلاّ بملاك واحد، وهو «الضرر»، ألا ترى أنّهينفي وجوب الوضوء الضرري لأجل كونه ضرريّاً، ولزوم البيع الغبني أيضلذلك.
فالحديث لا يكون قضيّة خارجيّة حتّى يكون إخراج أكثر أفرادهمستهجناً، بل قضيّة حقيقيّة، ولا استهجان عند هذا المحقّق الكبير في تخصيصأكثر أفرادها إذا كان التخصيص بعنوان واحد، والشيخ رحمهالله ادّعى كونه بعنوانواحد، وإن لم نعرفه تفصيلاً، فلا يرد عليه الإشكال.
الحقّ في مناقشة كلام الشيخ رحمهالله
نعم، يرد عليه إشكال آخر، وهو أنّه لا فرق عرفاً في استهجان تخصيصالأكثر بين كونه بعنوان واحد جامع للأفراد الخارجة وبين كونه بعناوين
- (1) منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 210.
ج5
متعدّدة، ألا ترى أنّ الوجدان حاكم باستهجان قول المولى: «لا تكرم غيرالمراجع من الروحانيّين» عقيب قوله: «أكرم كلّ روحاني» مع كون التخصيصبعنوان واحد؟
نعم، لو قال: «أكرم كلّ روحاني مرجع» فلا استهجان فيه، لكنّه خارج عمّنحن فيه، لأنّ القيد فيه متّصل، ولا إشكال في عدم استهجان تخصيص الأكثرإذا كان المخصّص متّصلاً، لأنّا قلنا في مبحث العامّ والخاصّ بعدم كونه مخصّصواقعاً، والتعبير بالتخصيص فيه تعبير مسامحي.
وحاصل البحث إلى هنا: أنّ الإشكال بقي على حاله، لعدم تماميّة ما أفادهالشيخ رحمهالله في حلّه.
جواب المحقّق النائيني رحمهالله عن الإشكال
ثمّ أجاب المحقّق النائيني رحمهالله عنه بوجهين آخرين:
الأوّل: أنّ حديث «لا ضرر» حاكم على أدلّة الأحكام المجعولة التي تارةًتكون ضرريّة، واُخرى لا تكون كذلك، وناظر عليها على وجه التخصيص(1)،مثل دليل وجوب الوضوء ولزوم البيع، ولا يمكن أن يكون حاكماً على دليلوجوب الزكاة والخمس وغيرهما من الأحكام الضرريّة التي يكون طبعهضرراً، إذ لم تكن هذه الأحكام على قسمين: ضرري وغير ضرري حتّىتكون أدلّتها محكومة لحديث الضرر، بل هي ضرريّة دائماً وفي جميع الموارد.
وبالجملة: لسان حديث الضرر لسان الحكومة على وجه التخصيص،فيكون ناظراً إلى أدلّة الأحكام التي تكون ضرريّة أحياناً، وأمّا بالنسبة إلىأدلّة الأحكام التي تكون طبعها ضرريّة فهو معارض لها، لا حاكم عليها.
- (1) إنّ الحكومة والنظارة تارةً تكون بتخصيص دليل آخر وتضييق دائرته، واُخرى بتوسعته. م ح ـ ى.
(صفحه426)
الثاني: أنّا لا نسلّم تخصيص الأكثر في المقام، لأنّ غالب ما ذكره منالأحكام وادّعى خروجها عن تحت الحديث تخصيصاً لا يكون ضرريّاً، فلميكن داخلاً فيه من أوّل الأمر.
فإنّ الحكم بالضمان المستفاد من قاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»لم يكن ضرريّاً، لأنّ تأدية المتلِف المثل أو القيمة إلى صاحب المال تكون جبرللمتلَف، لا ضرراً على المتلِف، وهكذا الحكم بلزوم إعطاء الدية في القتلخطأً، أو عمداً مع اختيار أولياء المقتول الدية، لم يكن ضرريّاً، لأنّ القتلمستند إلى القاتل، فلابدّ له من جبرانه.
وكذلك الحكم بوجوب الزكاة والخمس، إذ أربابهما شركاء المالك في المالالمتعلّق لهما، وأداء سهم الشريك من المال المشترك فيه لا يكون ضرراً كما هوواضح، وهكذا الموارد الاُخر.
نعم، بعض الأحكام يكون ضرريّاً ومخصّصاً لحديث الضرر ـ مثل الجهادوالحجّ ـ لكن تخصيصه بها لا يستلزم تخصيص الأكثر، لأنّها قليلة(1). هذحاصل كلامه قدسسره .
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في الجواب عن الإشكال
واستشكل سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» على جوابه الثاني بوجهين:
أ ـ أنّ بعض الأحكام التي أنكر كونها ضرريّة يكون ضرريّاً، مثلالحكم بالضمان في الإتلاف إذا كان عن غفلة، كما إذا كان نائماً وأتلفمال الغير بتحريك رجله من دون التفات وشعور، نعم، إذا كان الإتلاف عنعلم وعمد والتفات فالحكم بالضمان لم يكن ضرريّاً، والحكم بوجوب الزكاة
- (1) منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 211.