(صفحه434)
فهاتان الآيتان تدلاّن على وجوب إطاعة الرسول وعلى كونه وليّاً وحاكمعلى الاُمّة في الاُمور الاجتماعيّة، بل وفي الاُمور الشخصيّة، فإذا أمر سريّة أنيذهبوا إلى قطر من الأقطار تجب طاعته عليهم، وكذا لو أمر زيداً مثلاً ببيعداره أو طلاق زوجته.
وثالث المقامات: مقام القضاوة والحكومة الشرعيّة، وذلك عند تنازعالناس في حقّ أو مال، فإذا رفع الأمر إليه وقضى بميزان القضاوة يكون حكمهنافذاً لا يجوز التخلّف عنه، لا بما أنّه رئيس وسلطان، بل بما أنّه قاضٍ وحاكمشرعي، وقد يجعل السلطان الأمارة لشخص، فينصبه لها، والقضاوة لآخر،فيجب على الناس إطاعة الأمير في إمارته لا في قضائه، وإطاعة القاضي فيقضائه لا في أوامره، وقد يجعل كلا المقامين لشخص أو لأشخاص.
وبالجملة: إنّ لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله مضافاً إلى المقامين الأوّلين مقام فصلالخصومة والقضاء بين الناس.
والدليل عليه أنّ له نصب القاضي، فله تصدّى القضاء بنفسه بطريق أولى.
توضيح حول التعبيرات الناقلة لكلام رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
المقدّمة الثانية: كلّ ما ورد عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بلفظ «قال» أو «يقول»وأمثالهما هل هو ظاهر في تبليغ حكم اللّه تعالى، أو في كونه أمراً صادرمنه صلىاللهعليهوآله مستقلاًّ بما أنّه سلطان وحاكم، أو لم يكن ظاهراً في أحدهما؟
الظاهر هو الأخير، فما ورد منه صلىاللهعليهوآله بلفظ «قال» وأمثاله خالياً عن القرينةيكون مجملاً مردّداً بين كونه بياناً لحكم اللّه تعالى، وبين كونه صادراً عن مقامسلطنته وحكومته.
وأمّا ما نقل عنه صلىاللهعليهوآله بلفظ «أمر» أو «نهى» أو «حكم» أو «قضى» خالي
ج5
عن القرينة وغير صادر في مقام فصل الخصومة فهو ظاهر في كونه صادراً عنمقام سلطنته وحكومته، إذ بيان حكم اللّه تعالى وحلاله وحرامه لم يكن أمرالرسول صلىاللهعليهوآله حقيقةً، بل أمر اللّه تعالى، فإسناد الأمر والنهي والحكم والقضاءإلى الرسول وإرادة تبليغه حكم اللّه مجاز يحتاج إلى القرينة.
فالظاهر من «أمر رسول اللّه بكذا» و«قضى رسول اللّه بكذا» خالياً عنالقرينة هو الأمر المولوي والحكومتي، لا الإرشاد إلى حكم إلهي.
ما اختاره الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في مفاد حديث «لا ضرر»
إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول: إنّ حديث نفي الضرر والضرار قد نقلهالعامّة بطرق مختلفة عن عبادة بن صامت الذي صرّحوا بإتقانه وضبطه، وهومن أجلاّء الشيعة، وعن الكشّي عن الفضل بن شاذان أنّه من السابقين الذينرجعوا إلى أمير المؤمنين عليهالسلام ، كحذيفة وخزيمة بن ثابت وابن التيهان وجابربن عبداللّه وأبي سعيد الخدري، وهو ممّن شهد العقبة الاُولى والثانية وشهدبدراً واُحداً والخندق والمشاهد كلّها مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله .
والرواية وإن كانت عامّيّة بالرواة المتأخّرة عن عبادة، إلاّ أنّ القضايا التينقلها عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله على ما في مسند أحمد وجمعها في حديث واحد تكونغالباً بألفاظها أو قريباً منها في أحاديثنا متفرّقةً في الموارد المحتاج إليها، منقولةًعن الصادقين عليهماالسلام ، وبذلك يحصل لنا الوثوق بصدور رواية عبادة بن صامت.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه عبّر عن الحديث في رواية عبادة بـ «وقضى أنلا ضرر ولا ضرار» فلابدّ من حمله إلى الأمر المولوي الصادر عن مقام ولايتهوحكومته صلىاللهعليهوآله ، لعدم القرينة على كونه صلىاللهعليهوآله في مقام بيان حكم اللّه، أو في مقامفصل الخصومة، فيكون مفاده أنّه حكم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وأمر بأن لا يضرّ أحدٌ
(صفحه436)
أحداً، ولا يجعله في ضيق وحرج ومشقّة، فيجب على الاُمّة إطاعة هذا النهيالمولوي السلطاني، بما أنّها إطاعة السلطان المفترض الطاعة.
وأمّا ما ثبت وروده من طرقنا فهو قضيّة سمرة بن جندب وورود الحديثفي ذيلها من غير تصديره بلفظة «قضى» أو «أمر» أو «حكم» بل ورد بلفظة«قال»، لكنّ التأمّل في صدر القصّة وذيلها وشأن صدور الحديث ممّا يكاد أنيشرف الفقيه بالقطع بأنّ «لا ضرر ولا ضرار» حكم صادر منه صلىاللهعليهوآله بنحوالآمريّة والحاكميّة بما أنّه سلطان ودافع للظلم عن الرعيّة، فإنّ الأنصاري لمّظُلِم ووقع في الحرج والمضيقة، بورود سمرة بن جندب هذا الفاسق الفاجرعلى أهله من غير استئذان منه وفي حالة يكره وروده عليه وهو فيها، شكإلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بما أنّه سلطان ورئيس على الملّة لكي يدفع الظلم عنه،فأرسل رسول اللّه إليه، فأحضره وكلّمه بما هو في الأخبار، فلمّا تأبّى حكمبالقلع ودفع الفساد وحكم بأنّه لا يضرّ أحدٌ أخاه في حمى سلطاني وحوزهحكومتي، فليس المقام مقام بيان حكم اللّه وأنّ الأحكام الواقعيّة ممّا لا ضررفيها وأنّه تعالى لم يشرّع حكماً ضرريّاً، أو أخبر أنّه تعالى نهى عن الضرر،فإنّ كلّ ذلك أجنبيّ عن المقام، فليس لهما شبهة ولا موضوعيّة، بل لم يكنشيء إلاّ تعدّي ظالم على مظلوم وتخلّف طاغٍ عن حكم السلطان بعد أمرهبالاستئذان، فلمّا تخلّف حكم بقلع الشجرة وأمر بأنّه «لا ضرر ولا ضرار»،أي الرعيّة ممنوعون عن الضرر والضرار دفاعاً عن المظلوم وسياسةً لحوزةسلطانه وحمى حكومته(1).
هذا ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام «مدَّ ظلّه العالي».
تأييد نظريّة الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في المقام
- (1) الرسائل، قاعدة «لا ضرر»: 49 ـ 56.
ج5
والشاهد على كون «لا ضرر ولا ضرار» حكماً حكومتيّاً، لا إلهيّاً أنّهتعليل لقوله صلىاللهعليهوآله : «فاقلعها وارمِ بها إليه» فإنّ الأمر بالقلع والرمي حكومتيقطعاً، والقاعدة تقتضي أن تكون العلّة من سنخ المعلول.
إن قلت: لو كان الحكم حكومتيّاً فلِمَ ساومه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بما في الأخبارولم يحكم ابتداءً، بل بعد إبائه عن البيع بالثمن الذي جعله صلىاللهعليهوآله ؟
قلت: إنّه صلىاللهعليهوآله كان في وسع من الحكم ابتداءً بعد إبائه عن الاستئذان، ولكنّهساومه بذلك الثمن رأفةً ورحمةً لسمرة، فإنّه نبيّ الرحمة.
إشكال ودفع
قال الشيخ الأنصاري رحمهالله في رسالة «لا ضرر»: في هذه القصّة إشكال، لأنّقلع الشجرة ضرر على سمرة، فما يجوّز دفع الضرار(1) عن الأنصاري بإيجادالضرر(2) على سمرة بن جندب، مع أنّ «لا ضرر ولا ضرار» يشمل كلّ مسلم.
ثمّ قال: ولكن هذا الإشكال لا يخلّ بالاستدلال بها على قاعدة «لضرر»(3).
أقول: يرد عليه أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار» علّة للأمر بقلع الشجرةوالرمي بها إلى سمرة، لأنّه صلىاللهعليهوآله فرّعه عليه بقوله: «فاقلعها وارمِ بها إليه، فإنّه لضرر ولا ضرار» وخروج المورد عن التعليل مستهجن قطعاً.
نعم، لو لم يكن «لا ضرر ولا ضرار» مرتبطاً بالأمر بالقلع بل كان جملةً
- (1 ، 2) التعبير في الأوّل بـ «الضرار» وفي الثاني بـ «الضرر» هو مقتضى تحقيقه«مدّ ظلّه» سابقاً في الفرقبينهما، وهو أنّ غالب موارد استعمال «الضرار» وتصاريفه هو التضييق الروحي، كما أنّ الشائع في«الضرر» هو استعماله في المال والنفس. م ح ـ ى.
- (2) رسالة نفي الضرر ـ المطبوعة في أواخر المكاسب بالطبع الحجري ـ : 372.
(صفحه438)
مستقلّة لم يخلّ ورود الإشكال وعدم إمكان الجواب عنه، بالاستدلالبالحديث على قاعدة «لا ضرر».
ولكن هذا الإشكال مندفع على ما اخترناه في معنى الرواية.
توضيح ذلك: أنّ الحديث لو كان في مقام بيان حكم اللّه تعالى ـ سواء كانحكماً ثانويّاً نافياً للأحكام الضرريّة، أو بمعنى النهي الإلهي كما اختاره شيخالشريعة ـ لما أمكن الجواب عن الإشكال، لأنّ حكم اللّه تعالى يعمّ جميعالمسلمين حتّى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، فالحكم الإلهي ـ أعني «لا ضرر ولا ضرار» كما يمنع سمرة بن جندب عن الإضرار بالأنصاري، كذلك يمنع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عن الإضرار بسمرة، ولكنّه إذا كان حكماً صادراً عنه صلىاللهعليهوآله بما أنّه سلطانوحاكم على الاُمّة فلا إشكال فيه، إذ الحكم لا يعمّ الحاكم، لأنّه صادر عنمقام السلطنة والحكومة، والحاكم لا يعقل أن يكون حاكماً على نفسه، بل هوحاكم على الرعيّة فقط، فحكم النبيّ صلىاللهعليهوآله بقلع الشجرة والرمي بها إلى سمرة وإنكان موجباً للإضرار به، إلاّ أنّه لا يستلزم محذوراً أصلاً.
نعم، لا يجوز للسلطان أن يحكم على الرعيّة اتّباعاً لنفسه، بل لابدّ مناشتمال حكمه على مصلحة كما في هذه القصّة، فإنّه صلىاللهعليهوآله أمر بقلع الشجرة ورميهإلى سمرة ليرى(1) المسلمون تبعة الظلم وعاقبة الطغيان والتخلّف عن حكمالسلطان، فلا يظلمون على الغير ولا يخالفون حكم السلطان.
فلا إشكال في الحديث على المعنى المختار، بخلاف ما ذهب إليه الشيخالأنصاري رحمهالله وباقي الفقهاء في معناه، فإنّ الإشكال وارد على كلّهم وليتمكّنون عن جوابه.
وانحصار دفع الإشكال بما ذهبنا إليه في معنى الحديث دليل على صحّته
- (1) وليقطع مادّة الفساد. م ح ـ ى.