(صفحه58)
مخالفة عمليّة، لأنّ مؤدّاها موافق للمعلوم بالإجمال(1).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله بطوله.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويرد عليه أوّلاً: أنّ تقسيم الاُصول إلى التنزيليّة وغيرها غير صحيح، إذ لفرق بين المجعول في دليل أصالة الطهارة مثلاً وبين المجعول في دليلالاستصحاب.
توضيح ذلك: أنّ قوله عليهالسلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»(2) يدلّعلى أنّ للمكلّف أن يعامل مع الشيء المشكوك الطهارة والنجاسة معاملةالشيء الطاهر في مقام العمل، فيجوز له استعماله في مشروط الطهارة.
وقوله عليهالسلام : «لاتنقض اليقين أبداً بالشكّ»(3) أيضاً يفيد نحو هذا المعنى، فإنّالعرف الذي هو الحاكم في تعيين معاني الأخبار يقضي بأنّ معناه هو لزومترتيب آثار اليقين السابق عملاً في زمان الشكّ، فالشارع المقدّس مع لحاظوجود الشكّ يحكم بعدم الاعتناء به في مقام العمل، وأين هذا من تنزيل الشكّمنزلة اليقين وإلغاء احتمال الخلاف وكون الشاكّ متيقّنا في عالم التشريع؟!
بل الذي هو مقدور المكلّف ويمكن أن يتعلّق به التكليف هو العمل، لالشكّ واليقين كما لا يخفى.
فأخبار الاستصحاب أيضاً في مقام جعل حكم ظاهري في مقام العمل، فلفرق بينه وبين سائر الاُصول من هذه الجهة.
وثانيا: سلّمنا أنّ الاستصحاب أصل تنزيلي، لكنّه لا يقتضي عدم جريانه
- (2) وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.
- (3) وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
ج5
في أطراف العلم الإجمالي، فلا مانع من جريان استصحاب طهارة كلا الإنائينبعد العلم بصيرورة أحدهما نجسا.
ولا يصغى إلى ما ادّعاه هذا المحقّق الكبير من أنّ «الإحراز التعبّدي ليجتمع الإحراز الوجداني بالخلاف».
بل يمكن الجمع بين التعبّد وبين العلم التفصيلي بالخلاف، فضلاً عنالإجمالي، ألا ترى أنّه لامنع من أن يحكم الشارع بكون المرتدّ الذي أحدأبويه مسلم(1) ميّتا في عالم التشريع، فيقسّم أمواله بين ورثته وتتزوّج زوجتهبعد انقضاء عدّتها، مع أنّا نراه حيّا يمشي في الأسواق، وهل هذا إلاّ التعبّد علىخلاف الإحراز الوجداني التفصيلي؟
والحاصل: أنّ جريان الاستصحاب في جميع أطراف العلم الإجمالي غيرممتنع، ولو قلنا بكونه أصلاً محرزا.
لا يقال: بناءً على كون مثل الاستصحاب أصلاً محرزا فلا فرق بينه وبينالأمارات، فإنّ الأمارات كما نزّلت منزلة القطع في جوّ الشرع، نزّلالاستصحاب أيضاً منزلته، فكان الأصل التنزيلي باصطلاح المحقّق النائيني رحمهالله أمارةً لا أصلاً.
فإنّه يقال: بينهما بونٌ بعيد، فإنّ الأمارات بنفسها كاشفة عن الواقع، بخلافالاُصول المحرزة التي لا طريقيّة لها إلى الواقع أصلاً، غاية الأمر نزّل الشارعمؤدّاها منزلة الواقع تعبّدا، من دون أن يكون لأنفسها نظر إلى الواقع.
فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ المحقّق النائيني رحمهالله ذهب إلى عدم جريان الاُصولالمحرزة في أطراف العلم الإجمالي أصلاً، وكذلك الاُصول غير المحرزة فيما إذاستلزم جريانها مخالفة عمليّة، بخلاف ما إذا لم يستلزم ذلك، وقد عرفت م
- (1) وهو الذي يعبّر عنه بـ «المرتدّ الفطري». م ح ـ ى.
(صفحه60)
استدلّ به على هذا التفصيل مع جوابه.
ما أفاده رحمهالله في مبحث الاستصحاب ممّا يرتبط بالمقام
ثمّ إنّ هذا المحقّق الكبير رحمهالله أورد على نفسه في مبحث تعارضالاستصحابين إشكالاً وأجاب عنه، حيث قال:
ربما يناقش فيما ذكرناه ـ من عدم جريان الاُصول المحرزة في أطراف العلمالإجمالي مطلقا، وإن لم يلزم منها مخالفة عمليّة ـ بأنّه يلزم على هذا عدم جوازالتفكيك بين المتلازمين الشرعيّين، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوءبمايع مردّد بين البول والماء؛ لأنّ استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافيالعلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدهما، لأنّه إن كان المايع ماءً فقد ارتفعالحدث، وإن كان بولاً فقد تنجّس البدن، فالتعبّد بالجمع بينهما لا يمكن.
بل يلزم عدم جواز التفكيك بين المتلازمين العقليّين أو العاديّين، فإنّاستصحاب حياة زيد وعدم نبات لحيته(1) ينافي العلم بعدم الواقع في أحدهما،لما بين الحياة والنبات من الملازمة، وكذا التعبّد ببقاء الكلّي وعدم حدوثالفرد(2) ونحو ذلك من الأمثلة التي تقتضي الاُصول العمليّة فيها التفكيك بينالمتلازمين.
- (1) فيما إذا كان نبات لحية زيد ذا أثر شرعي، كما إذا نذر التصدّق بدرهم لو نبتت لحيته، فيستصحب عدمنباتها، ليترتّب عليه عدم وجوب التصدّق. منه مدّ ظلّه توضيحا لكلام المحقّق النائيني رحمهالله .
- (2) ويعبّر عنه بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي، وهو ما إذا شكّ في بقاء الكلّي من جهة الشكّ في تعيينذلك الفرد الذي تحقّق الكلّي في ضمنه بين ما هو باقٍ جزما أو مرتفع قطعا، فالتحقيق حينئذٍ جرياناستصحاب الكلّي واستصحاب عدم حدوث الفرد المقطوع بقائه على تقدير حدوثه، فلو كان لكلّ منالكلّي والفرد أثر شرعي لترتّب أثر الكلّي وانتفى أثر الفرد، لأجل استصحاب الوجود في الأوّل والعدمفي الثاني، مع أنّ الحادث لو كان هو الفرد المقطوع بقائه لبقي الكلّي والفرد كلاهما، ولو كان هو الفردالمقطوع ارتفاعه لارتفع كلاهما، فاستصحاب بقاء الكلّي وعدم حدوث الفرد يستلزم التفكيك بينالمتلازمين. م ح ـ ى.
ج5
والالتزام بعدم جريان الاستصحابين إذا أوجبا التفكيك بين المتلازمينالشرعيّين أو العقليّين والعاديّين بعيد غايته، بل لا يمكن الالتزام به، فإنّ ثمرةالقول بعدم حجّيّة الأصل المثبت إنّما تظهر في التفكيك بين المتلازمين، فدعوىعدم جريان الاُصول المحرزة إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين، تنافيالقول بعدم حجّيّة الأصل المثبت.
هذا، والتحقيق في دفع الشبهة هو أن يقال:
إنّه تارةً: يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي(1) بكذب ميؤدّيان إليه، لأنّهما يتّفقان على نفي ما يعلم تفصيلاً ثبوته أو على ثبوت مايعلمتفصيلاً نفيه، كما في استصحاب نجاسة الإنائين أو طهارتهما مع العلم بطهارةأحدهما أو نجاسته، فإنّ الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلاً منطهارة أحدهما أو نجاسته.
واُخرى: لا يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ميؤدّيان إليه، بل يعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون أنيتوافقا في ثبوت ما علم تفصيلاً نفيه أو نفي ما علم تفصيلاً ثبوته، بل لا يحصلمن التعبّد بمؤدّى الأصلين إلاّ العلم بمخالفة أحدهما الواقع، كما في الاُصولالجارية في الموارد التي يلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيّين أوالعقليّين، فإنّه لا يلزم من استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوءبمايع مردّد بين البول والماء أو من استصحاب بقاء الحياة وعدم نبات اللحيةالعلم التفصيلي بمخالفة ما يؤدّيان إليه، لأنّهما لم يتّحدا في المؤدّى، بل كانمؤدّى أحدهما غير مؤدّى الآخر، غايته أنّه يلزم من جريانهما التفكيك بين
- (1) عبّر هاهنا بـ «العلم التفصيلي» لأجل تعبيره عن الإناء المعلوم بالإجمال بـ «أحدهما» لا بـ «هذا الإناء أوذلك الإناء». منه مدّ ظلّه.
(صفحه62)
المتلازمين، بخلاف استصحاب النجاسة أو الطهارة في كلّ من الإنائين، فإنّالاستصحابين متّحدان في المؤدّى مع العلم التفصيلي بالخلاف.
فالفرق بين القسم الأوّل والثاني ممّا لا يكاد يخفى، والذي منعنا عن جريانهفي أطراف العلم الإجمالي هو القسم الأوّل؛ لأنّه لا يمكن التعبّد بالجمع بينالاستصحابين الذين يتوافقان في المؤدّى مع مخالفة مؤدّاهما للمعلوم بالإجمال.
وأمّا التعبّد بالجمع بين الاستصحابين المتخالفين في المؤدّى الذي يلزم منجريانهما التفكيك بين المتلازمين، فلا محذور فيه، فإنّ التلازم بحسب الواقع ليلازم التلازم بحسب الظاهر، لأنّه يجوز التفكيك الظاهري بين المتلازمينالواقعيّين.
فظهر أنّ القول بعدم جريان الاُصول المحرزة في أطراف العلم الإجماليلايلازم القول بعدم جريانها إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيّينأو العقليّين أو العاديّين(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في مبحث الاستصحاب
ويمكن المناقشة فيه بوجهين:
أ ـ أنّك عرفت(2) أنّ من موارد الدوران بين المتباينين ما إذا كان جنسالتكليف معلوما دون نوعه، كما إذا شكّ في أنّ صلاة الجمعة واجبة أو الغصبحرام؟
وما ادّعاه المحقّق النائيني رحمهالله من عدم جريان الاُصول المحرزة في أطرافالعلم الإجمالي يعمّ هذا المورد أيضاً، فلو كان كلّ واحد من وجوب صلاة
- (1) فوائد الاُصول 4: 694.