(صفحه64)
أطراف العلم الإجمالي، وكون المعلوم فيها عنوان «أحدهما» لا يقتضيصيرورة العلم الإجمالي تفصيليّا، فإنّ قوام العلم الإجمالي إنّما هو بتعلّقه بأحدالطرفين أو الأطراف، ولو كان التعبير بأنّ المعلوم هو «أحدهما» موجبلصيرورة العلم تفصيليّا لكانت جميع العلوم الإجماليّة تفصيليّة، لتعلّقها بأحدالطرفين أو الأطراف كما لا يخفى.
والحاصل: أنّ ما أفاده الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني في مسألة جريانالاُصول في أطراف العلم الإجمالي غير تامّ.
عود إلى أصل البحث، وبيان الحقّ في المسألة
والحقّ أن يقال: إنّ التكليف المعلوم بالإجمال على نوعين:
أ ـ أن يكون تكليفاً فعليّا قطعيّا بحيث يتعلّق غرض المولى به بأيّ نحوكان، ولا يرضى بمخالفته بوجه من الوجوه حتّى في صورة كونه معلومبالإجمال.
ولاريب في كون العلم الإجمالي في هذه الصورة علّة تامّة لحرمة المخالفةالقطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة.
وبعبارة اُخرى: يحكم العقل ثبوتا بأنّه ليس للمولى تجويز مخالفة هذا النوعمن العلم الإجمالي في جميع الأطراف ولا في بعضها، حتّى في الشهبات غيرالمحصورة، فضلاً عن المحصورة.
فلا تصل النوبة إلى مقام الإثبات وملاحظة ظهور الأدلّة، فلو كان لنا دليلظاهر في الترخيص في هذه الصورة فلابدّ من توجيهه وحمله على معنى غيرمنافٍ لحكم العقل القطعي.
ب ـ أن نعلم إجمالاً بقيام حجّة معتبرة على التكليف المردّد بين أمرين أو
ج5
أكثر من دون أن نعلم بعدم رضا المولى بمخالفته مطلقا وبأيّ وجه منالوجوه.
وقد تقدّم حكم المخالفة القطعيّة في هذه الصورة ثبوتا وإثباتا.
وثبت(1) أنّ الترخيص فيها لا يمتنع عقلاً، لجواز أن يحدث في صورةالإجمال والترديد مصلحة أقوى تقتضي أن يرضى المولى بترك التكليفالواقعي المدلول عليه بالأمارة الإجماليّة.
وبعبارة اُخرى: ليس العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة في هذهالصورة، فيتمكّن الشارع من تجويزها.
هذا بحسب حكم العقل.
لكنّك عرفت(2) أنّ العرف يقضي بكونه علّة تامّة لحرمتها وأنّ ارتكاب كلالإنائين الذين قامت الأمارة على خمريّة أحدهما معصية، فتجويزه ترخيصفي المعصية، فلو ظهر دليل في تجويز المخالفة القطعيّة حمله العرف على معنى آخرلايلزم منه ارتكاب المعصية، وهذا هو المتّبع، لأنّ الحاكم في معاني الأدلّةالشرعيّة هو العرف.
وثبت(3) أيضاً أنّه لا دليل على الترخيص في المخالفة القطعيّة بحسب مقامالإثبات، ولو كان للزم حمله على معنى لا يستلزم المخالفة القطعيّة، لما عرفتمن أنّها تعدّ معصية عند العقلاء.
البحث حول المخالفة الاحتماليّة
وفي المخالفة الاحتماليّة مقامان من البحث:
(صفحه66)
الأوّل: في إمكان الترخيص في بعض الأطراف ثبوتا.
الثاني: فيما اقتضته الأدلّة إثباتاً، بعد الفراغ عن إمكان الترخيص في بعضالأطراف.
أمّا المقام الأوّل: فالحقّ فيه أنّه لا تمتنع المخالفة الاحتماليّة عقلاً ولا عرفا،فإنّ العقل والعقلاء كلاهما يحكمان بعدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوبالموافقة القطعيّة، بل هو مقتضٍ له، فللشارع تجويز ارتكاب بعض الأطراف فيالشبهات التحريميّة وتجويز ترك بعضها في الشبهات الوجوبيّة.
أمّا العقل: فلأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة إذا كان ممكنا عندهفالترخيص في المخالفة الاحتماليّة كان ممكنا بطريق أولى.
وأمّا العقلاء: فلأنّ الترخيص في جميع الأطراف يعدّ عندهم ترخيصا فيالمعصية لا في بعضها.
وأمّا المقام الثاني: فلابدّ من ملاحظة الأدلّة وأنّها هل تدلّ على جوازالمخالفة في بعض الأطراف أم لا؟
فلو دلّت على ذلك لما كان للعلم الإجمالي أثر بالنسبة إلى وجوب الموافقةالقطعيّة، وإلاّ لأثّر أثره وكانت الموافقة القطعيّة واجبة كما كانت المخالفة القطعيّةمحرّمة.
البحث حول جريان «أصالة الحلّيّة» في بعض الأطراف
أمّا «أصالة الحلّيّة» فقد عرفت(1) المناقشة في سند حديثين من أحاديثهالأربعة المتقدّمة، فإنّ الحديث الأوّل ـ وهو رواية معاوية بن عمّار ـ مرسل،وعبداللّه بن سليمان في الحديث الثاني مجهول، وأمّا الحديث الرابع ـ أعني رواية
ج5
مسعدة بن صدقة ـ فقد عرفت(1) الاغتشاش في متنها بحيث يصير الاستدلالبها في المقام موهونا، على أنّ في النفس من مسعدة بن صدقة شيئا على ميستفاد من كتب الرجال.
نعم، الحديث الثالث ـ وهو رواية عبداللّه بن سنان ـ كان صحيحا سندوشاملاً لموارد العلم الإجمالي دلالةً بناءً على ما قوّيناه(2) من بين الاحتمالاتالمتصوّرة في مدلوله، من أنّ المراد بـ «الشيء» المأخوذ في المغيّى هو «مجموعالشيئين» الذين أحدهما حلال والآخر حرام، كالإنائين الذين نعلم أنّأحدهما ماء والآخر خمر، فكان معنى الرواية أنّ كليهما حلالان حتّى تعلمالحرام منهما بعينه.
لكنّه تجويز في المخالفة القطعيّة، وقد عرفت أنّه وإن كان ممكنا عقلاً، إلاّ أنّهممتنع عرفا، فلابدّ من حملها على الشبهات البدويّة كما تقدّم.
وأمّا رواية مسعدة بن صدقة فلا يرد عليها هذا الإشكال لو اُغمض عناغتشاشها المتني وإشكالها السندي، وذلك لأنّ لسانها هو «كلّ شيء هو لكحلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه»(3)؛ أي «كلّ شيء شكّ في حلّيّته وحرمته(4)هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» وهو مضافا إلى الشبهات البدويّة يعمّكلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي، لأنّ كلاًّ من أطرافه مشكوك الحلّيّةوالحرمة، فتعمّه هذه الرواية مستقلاًّ، ولا تعمّ مجموع الطرفين أو الأطراف معكي يرد عليها الإشكال الذي كان يرد على صحيحة عبداللّه بن سنان.
- (3) فليس فيها جملة «فيه حلال وحرام» كي نفسّرها بـ «مجموع الشيئين» الّذين أحدهما حلال بالفعلوالآخر حرام بالفعل. منه مدّ ظلّه.
- (4) يستفاد قيد «شكّ في حلّيّته وحرمته» من «العلم» الذي جعل غاية للحلّيّة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه68)
لكن ربما يستشكل عليه بأنّ الترخيص في جميع الأطراف ممتنع عرفا كمعرفت، وفي بعضها ـ كالترخيص في الإناء الواقع في اليمين مثلاً ـ ترجيح منغير مرجّح.
إن قلت: يمكن تجويز «أحدهما» لا على التعيين.
قلت: عنوان «أحدهما» أمرٌ اعتباري، وليس له حقيقة خارجيّة كي يتعلّقبه الحكم.
وبعبارة اُخرى: «الشيء المشكوك الحلّيّة والحرمة» الذي حكم في الحديثبحلّيّته، له في المقام فردان: الإناء الواقع في طرف اليمين، والإناء الواقع في طرفاليسار، وليس لنا شيء ثالث باسم «أحدهما» كي يدلّ الحديث على جوازارتكابه.
واُجيب عن هذا الإشكال بما يحتاج توضيحه إلى ذكر مقدّمة:
وهي أنّ العامّ أو المطلق قد لا يعمّ شيئا مباشرة إلاّ أنّه يعمّه بمعونة حكمالعقل.
توضيح ذلك: أنّا نستفيد من العامّ والمطلق أمرين: أ ـ جريان الحكم فيجميع الأفراد، ب ـ تحقّق ملاك الحكم فيها، فإذا قال المولى: «أكرم العلماء»يستفاد منه أنّ كلّ واحد من أفراد العالم يجب إكرامه وهو واجد لملاك وجوبالإكرام، وإذا قال: «أعتق رقبةً» يستفاد منه أنّ كلّ واحدٍ من أفراد الرقبةيجب عتقه وهو واجد لملاك وجوب العتق.
ثمّ إنّ التخصيص والتقييد تارةً يتعلّق بالمادّة واُخرى بالهيئة والحكم.
مثال الأوّل: ما إذا قال المولى: «أكرم كلّ عالم» وقال في دليل آخر:«لاتكرم الفسّاق من العلماء» فإنّ هذا الدليل المخصّص يضيّق دائرة المتعلّق،فكأنّه قال من بداية الأمر: «أكرم كلّ عالم غير فاسق».