ج5
ليس على ما ينبغي إن كان المراد منه الأصل العملي المجعول وظيفة في حالالشكّ، لما عرفت: من أنّه لا يمكن جعل الوظيفة في باب دوران الأمر بينالمحذورين، من غير فرق بين الوظيفة الشرعيّة والعقليّة.
أمّا الوظيفة الشرعيّة: فواضح بالبيان المتقدّم.
وأمّا الوظيفة العقليّة: فلأنّ التخيير العقلي إنّما هو فيما إذا كان في طرفيالتخيير ملاك يلزم استيفائه ولم يتمكّن المكلّف من الجمع بين الطرفين،كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم، وفي دوران الأمر بين المحذورين ليسكذلك، لعدم ثبوت الملاك في كلّ من طرفي الفعل والترك، فالتخيير العقلي فيباب دوران الأمر بين المحذورين إنّما هو من التخيير التكويني، حيث إنّالشخص لايخلو بحسب الخلقة من الأكوان الأربعة(1)، لا التخيير الناشئ عنملاك يقتضيه، فأصالة التخيير عند دوران الأمر بين وجوب الفعل وتركهساقطة(2)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
والمحقّق العراقي رحمهالله أنكر جريان أصالة التخيير في موارد الدوران بينالمحذورين ببيان آخر، حيث قال:
لايصلح المقام للحكم التخييري، فإنّ الحكم التخييري شرعيّاً كان، كما فيباب الخصال، أو عقليّا، كما في المتزاحمين، إنّما يكون في مورد يكون المكلّفقادرا على المخالفة، بترك كلا طرفي التخيير، فكان الأمر التخييري باعثا علىالإتيان بأحدهما وعدم تركهما معا، لا في مثل المقام الذي هو من التخيير بين
- (1) الأكوان الأربعة: هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. م ح ـ ى.
- (2) فوائد الاُصول 3: 444.
(صفحه10)
النقيضين، فإنّه بعد عدم خلوّ المكلّف تكوينا عن الفعل أو الترك، لا مجالللأمر التخييري بينهما وإعمال المولويّة فيه، لكونه لغوا محضا(1)، إنتهى موضعالحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد كلام العلمين: النائيني والعراقي رحمهماالله في المسألة
وفيهما: أنّه لا دليل على اختصاص التخيير بباب المتزاحمين، كما قال المحقّقالنائيني رحمهالله ، ولا بما إذا تمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة، كما عبّر به المحقّقالعراقي رحمهالله ، بل كما أنّ المكلّف مخيّر شرعا في باب خصال الكفّارة، وعقلاً فيباب المتزاحمين، كذلك يحكم العقل بكونه مخيّرا عند الدوران بين المحذورين،فإنّ ملاك حكم العقل في موارد الدوران هو ملاحظة أنّ الطرفين متساويانمن دون أن يكون أحدهما أهمّ، مع كون المكلّف غير قادر على الموافقةالقطعيّة، ولا على المخالفة القطعيّة، فيحكم حينئذٍ بأنّ المكلّف لا يمكن أن يكونموظّفا إلاّ بالتخيير.
- (1) نهاية الأفكار 3: 293.
ج5
(صفحه12)
في جريان البراءة العقليّة في المسألة
ثمّ الحقّ أنّه لا منع من جريان «قبح العقاب بلابيان» في المقام، لأنّ العلمالإجمالي بوجوب الفعل أو حرمته يكون بيانا بالنسبة إلى الجنس الذي هوالتكلف الإلزامي، وأمّا النوع، وهو الوجوب والحرمة فليس معلوما كي يتمّالبيان بالنسبة إليه ويمنع من إجراء البراءة العقليّة.
نعم، فيما إذا كان نوع التكليف معلوما وكان الترديد في المكلّف به ـ كما إذشككنا في أنّ الواجب هل هو صلاة الظهر أو الجمعة؟ ـ كان العلم الإجماليمنجّزا على كلا التقديرين ووجب على المكلّف الاحتياط بإتيان كلا الفعلين.
بخلاف المقام الذي يكون جنس التكليف فيه معلوما ونوعه مجهولاً، فليسالعلم الإجمالي منجّزا للوجوب على تقدير وجوب العمل ولا للحرمة علىتقدير حرمته، فيحكم العقل بـ «قبح العقاب بلا بيان» بالنسبة إلى كلّ منهما.
ولو كان العلم الإجمالي هاهنا بيانا مانعا من جريان البراءة لما سلم للبراءةمورد أصلاً، ضرورة أنّا إذا شككنا في أنّ الدعاء عند رؤية الهلال واجب أومندوب، أو شككنا في أنّ شرب التتن حرام أو مباح، كان جنس الحكممعلوما ونوعه مجهولاً، فهل يمكن الالتزام بأنّ العلم الإجمالي هاهنا منجّز علىكلّ حال؟!
فهذا كاشف عن عدم كون العلم الإجمالي بيانا رافعا لموضوع البراءة
ج5
العقليّة فيما إذا كان نوع التكليف مجهولاً مردّدا، كما في موارد الدوران بينالمحذورين.
إن قلت: نعم، ولكنّه بيان بالنسبة إلى جنس التكليف.
قلت: نعم، ولكن لا أثر لهذا البيان، لأنّ المعلوم هو الإلزام، ولا يتمكّنالمكلّف من امتثاله، لأنّه مردّد بين لزوم الفعل ولزوم الترك ولا يتمكّنالمكلّف من أن يكون فاعلاً وتاركا معا، فلا يمكن أن يتنجّز هذا الإلزامالمعلوم المبيّن.
والعجب من الأعلام الثلاثة: ـ المحقّق الخراساني والنائيني والعراقي رحمهمالله حيث أنكروا جريان البراءة العقليّة في المقام.
كلام صاحب الكفاية في المسألة ونقده
فقال المحقّق الخراساني رحمهالله : ولامجال هاهنا لقاعدة «قبح العقاب بلبيان» فإنّه لا قصور فيه(1) هاهنا، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدمالتمكّن من الموافقة القطعيّة كمخالفتها، والموافقة الاحتماليّة حاصلة لا محالةكما لا يخفى(2).
وانقدح جوابه ممّا تقدّم، فإنّ العلم الإجمالي في المقام بيان بالنسبة إلىأصلالتكليف الإلزامي، لا بالنسبة إلى خصوص الوجوب والحرمة، ولو كان مثلهبيانا رافعا لموضوع البراءة العقليّة لما بقي لها مورد أصلاً كما عرفت.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
- (1) أي في البيان. م ح ـ ى.