(الصفحة 11)
افتقار إلى غيرهم ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الاقتصاد من أهمّ اُمور المجتمع ، ويتفرّع عليه اُمور كثيرة من المحاسن والمضارّ المتعدِّدة الفردية والاجتماعية ; ولذا نرى الأمر بإيتاء الزكاة عقيب الأمر بإقامة الصلاة في كثير من موارد الكتاب العزيز ، ولعلّه يكون مُشعراً بافتقار المجتمع إلى الاُمور العبادية والاقتصادية ، وإلاّ فالواجبات كثيرة ، وعطفها على الأمر بإقامة الصلاة ممكن، وظنّي أنّ تشريع المضاربة في الإسلام من أدلّة كماله وتمامه .
والظاهر أنّه ليس كالبيع والإجارة والنكاح والطلاق من العقود والإيقاعات الإمضائية ، غاية الأمر مع الاختلاف من حيث الشرائط ، بل هي أمرٌ تأسيسي لم يكن له سابقة في الملل الاُخرى وبين العقلاء ، كما لا يخفى .
ونظره إلى الدِّين والدُّنيا فراراً عن الربا ، كجعل المتعة فيه فراراً عن الزنا ، كما فصّلنا القول فيه في بحث نكاح المتعة المتقدّم في كتاب النكاح(1) .
ثمّ إنّه ذكر المحقّق الأردبيلي في كتاب زبدته المشتمل على آيات الأحكام ما يرجع إلى أنّ في المضاربة آيات ثلاث ; الاُولى :
{فَانتَشِرُوا فِى الاَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ}(2) . والثانية :
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ}(3) ، والثالثة :
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ}(4) ، ثمّ أورد على الاستدلال ـ كما صنعه بعض من فقهاء الحنفيّة
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب النكاح : 324 ، القول في النكاح المنقطع .
- (2) سورة الجمعة : 62 / 10 .
- (3) سورة النساء : 4 / 101 .
- (4) سورة المزمّل : 73 / 20 .
(الصفحة 12)
والشافعيّة ـ بأنّه لا دلالة فيها إلاّ بعموم بعيد ، وآية البيع والتجارة أقرب منها(1) . وأنت خبير بأنّه بعد توجيه كلامه من جهة أنّ مراده من العموم هو الإطلاق ، ضرورة عدم ثبوت العموم في شيء منها ، أنّ الإطلاق أيضاً محلّ منع ; لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة ، بل في مقام الإهمال أو أمر آخر كقصر الصلاة ، مضافاً إلى أنّ ما في ذيل كلامه من أنّ آية البيع والتجارة أقرب منها ممنوع ، ضرورة عدم كون المضاربة بيعاً ، بل صدق التجارة عليها مشكل بل ممنوع ; لأنّها مقدّمة لحصول التجارة وتحقّقها لا أنّها بنفسها أيضاً تجارة .
هذا بالإضافة إلى ما لو كان الربح الحاصل بينهما بصورة الكسر المشاع الذي هو المتيقّن الذي لا خلاف فيه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى(2) ، أمّا لو جعل تمام الربح للمالك فليس مضاربة بل بضاعة ، والظاهر ثبوت اُجرة المثل للعامل مع عدم اشتراط المجّانيّة ; لكون العمل محترماً واقعاً بأمر المالك ، فيجب فيه اُجرة المثل كسائر الموارد ، اللّهمَّ إلاّ أن يكون قصد العامل التبرّع والمجّانية ، أو كان للعمل ظهور عقلائي في ذلك ، وسيأتي الكلام فيما بعد إن شاء الله تعالى(3) . ثمّ إنّه حيث إنّ المضاربة من العقود يحتاج إلى الإيجاب والقبول ، ويكفي في الإيجاب كلّ لفظ يدلّ عليه بالظهور العرفي العقلائي كسائر الموارد ، ولا يعتبر أن يكون على سبيل الحقيقة فإنّ أصالة الظهور المعتمد عليها عند العرف والعقلاء أعمّ من أصالة الحقيقة، كما قد قرّر في محلّه ، فيكفي في الإيجاب الصادر من المالك لرأس المال «ضاربتك» أو «قارضتك» أو «عاملتك» بكذا ، وفي القبول «قبلت» و«رضيت» وشبهها ، وسيأتي
- (1) زبدة البيان : 587 .
- (2) في ص21 .
- (3) في ص 42 ـ 43 .
(الصفحة 13)
[شرائط المضاربة]
مسألة 1 : يشترط في المتعاقدين البلوغ والعقل والاختيار ، وفي ربّ المال عدم الحجر لفلس ، وفي العامل القدرة على التجارة برأس المال ، فلو كان عاجزاً مطلقاً بطلت ، ومع العجز في بعضه لا تبعد الصحّة بالنسبة على إشكال . نعم ، لو طرأ في أثناء التجارة تبطل من حين طروّه بالنسبة إلى الجميع لو عجز مطلقاً ، وإلى البعض لو عجز عنه على الأقوى. وفي رأس المال أن يكون عيناً ، فلا تصحّ بالمنفعة ولا بالدين ; سواء كان على العامل أو غيره إلاّ بعد قبضه . وأن يكون درهماً وديناراً، فلا تصحّ بالذهب والفضّة غير المسكوكين والسبائك والعروض.
نعم، جوازها بمثل الأوراق النقديةونحوها من الأثمان غير الذهب والفضّة لايخلو من قوّة ، وكذا في الفلوس السود . وأن يكون معيّناً، فلا تصحّ بالمبهم; كأن يقول : «قارضتك بأحد هذين» أو «بأيّهما شئت». وأن يكون معلوماً قدراً ووصفاً . وفي الربح أن يكون معلوماً ، فلو قال : «إنّ لك مثل ما شرط فلان لعامله» ولم يعلماه بطلت . وأن يكون مشاعاً مقدّراً بأحد الكسور;
بعض الخصوصيات الاُخر المعتبر في المتعاقدين في باب المضاربة ، فانتظر .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ المضاربة عقد مستقلّ بحياله وله اعتبار خاصّ عند الشارع، ولا تكون من مصاديق الوكالة كما يظهر من المالكيّة على ما حكي(1) ، ولا الشركة بين المالك والعامل من جهة رأس المال والعمل ، كما حكي عن بعض آخر من فقهاء الناس ، كما أنّه لا تنطبق على الربا بوجه ، ويؤيّده إمكان عدم حصول الربح رأساً ، فهي في الحقيقة عنوان آخر يترتّب عليها أحكام خاصّة على ما سيأتي .
- (1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : 3/517 .
(الصفحة 14)كالنصف أو الثلث ، فلو قال : «على أنّ لك من الربح مائة والباقي لي» أو بالعكس ، أو «لك نصف الربح وعشرة دراهم» مثلاً لم تصحّ . وأن يكون بين المالك والعامل لا يشاركهما الغير ، فلو جعلا جزءاً منه لأجنبيّ بطلت إلاّ أن يكون له عمل متعلّق بالتجارة1.
1ـ لا شبهة في اعتبار الاُمور المعتبرة في المتعاقدين من البلوغ والعقل والاختيار في سائر العقود ، خصوصاً العقود المالية هنا أيضاً ، وأمّا الاُمور الخاصّة المعتبرة هنا فهي عبارة عن :
1: يشترط في ربّ المال أن لا يكون محجوراً لفلس ، ضرورة أنّ المضاربة تصرّف في المال ، وإذا حكم على ربّ المال بعدم جواز التصرّف فلا تصحّ المضاربة الصادرة منه ، والظاهر أنّ المحجورية لسفه أيضاً كذلك ; لعدم الفرق كما لايخفى .
2: يشترط في العامل القدرة على التجارة والتكسّب برأس المال ، فإن كان عاجزاً عنها وكان عجزه مطلقاً بطلت المضاربة ; لعدم تحقّق الغرض منها قطعاً كما هو المفروض ، وأمّا لو كان عاجزاً عن التجارة بجميع رأس المال لا ببعضه ، فقد نفى البُعد في المتن عن الصحّة بالإضافة إلى ذلك البعض مع التعقّب بالإشكال ، ولعلّ السرّ فيه عدم تبعّض العقد ، مضافاً إلى إمكان جعل رأس المال بيد من يقدر على التجارة بالجميع ، فيكون ربحه أكثر والنفع الحاصل أزيد ، وقد عرفت(1) أنّ الغرض من تشريع المضاربة عدم ركود الإمكانات المالية وكذا الإمكانات العملية الحسبية ، وهذا بخلاف ما لو باع عبداً وحرّاً بعنوان العبودية ، حيث إنّه بعد استكشاف الحال يصير البيع مبعّضاً من دون أن يلزم تال فاسد .
(الصفحة 15)
وربما يقال هنا أيضاً بأنّ المضاربة كغيرها من العقود تنحلّ إلى عقود متعدِّدة على أجزاء رأس المال وإن كانت بحسب الإنشاء واحدة ، وعليه فلا موجب للحكم بالبطلان بالإضافة إلى الجميع ، بل يتعيّن الحكم بالصحّة فيما يقدر عليه والبطلان فيما يعجز عنه ،(1) ولكنه يرد عليه أنّ الانحلال هل هو على وفق القاعدة ، أم على خلافها ، فعلى التقدير الأوّل لا مانع من التبعيض والحكم بالصحّة بالنسبة إلى البعض ، وأمّا على الثاني فالحكم بالصحّة في بعض الموارد على خلاف القاعدة لابدّ من الاقتصار فيه على خصوص ذلك البعض ، والظاهر ذلك ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ العقود تابعة للقصود ، والألفاظ لا دلالة لها على الانحلال بوجه ، مع أنّ لازمه صحّة المضاربة بالنسبة إلى ما يقدر عليه ولو كان في غاية القلّة ، كما لايخفى .
هذا ، وقد ذكرنا في تعليقاتنا على العروة الوثقى أنّه إن كان المراد بالقدرة هي القدرة على المعاملة في الجميع في مقابل العجز مطلقاً ، كما يدلّ عليه قوله (قدس سره): «فإنّه إذا كان» الخ ، فيرد عليه أنّه لا دليل على اعتبار هذا النحو من القدرة في المضاربة ، ولا على كونها مثل الإجارة لو سلّم الحكم فيها . وإن كان المراد بها هي القدرة ولو في الجملة ، نظراً إلى أنّه مع العجز الكلّي تتّصف المعاملة باللغويّة ، ولا يجدي في ذلك مجرّد الفرق بين الإجارة والمضاربة بعدم ثبوت التمليك فيها ابتداءً بخلاف الإجارة; لأ نّ عدم ثبوت التمليك فيها لا يخرج المعاملة مع العجز عن اللغوية ، فيرد عليه منع الحكم فيما فرعه على ذلك ، فإنّ لازم ذلك إمّا الحكم بالصحّة مطلقاً ، أو بالإضافة إلى خصوص المقدار المقدور واشتراكهما في الربح فيه ، لا اختصاص المالك به وثبوت الاُجرة للعامل مع الجهل بالبطلان .(2)
- (1) المباني في شرح العروة الوثقى، كتاب المضاربة: 18 ـ 19 .
- (2) الحواشي على العروة الوثقى: 226 حاشية الشرط العاشر .