(الصفحة 395)مسألة 3 : كلّ من عليه حقّ ماليّ صحّت الكفالة ببدنه ، ولا يشترط العلم بمبلغ ذلك المال . نعم ، يشترط أن يكون المال ثابتاً في الذمّة بحيث يصحّ ضمانه ، فلو تكفّل بإحضار من لا مال عليه وإن وجد سببه ـ كمن جعل الجعالة قبل أن يعمل العامل ـ لم تصحّ . وكذا تصحّ كفالة كلّ من يستحقّ عليه الحضور إلى مجلس الشرع; بأن تكون عليه دعوى مسموعة وإن لم تقم البيِّنة عليه بالحقّ . وكذا تصحّ كفالة من عليه عقوبة من حقوق الخلق كعقوبة القصاص ، دون من عليه عقوبة من حقوق الله تعالى كالحدّ والتعزير ، فإنّها لا تصحّ1.
المديون لا يكون راضياً به نوعاً ، بل كان مريداً للغيبوبة وعدم الحضور عند الدائن ، بل عدم التمكّن من إحضاره لذلك ، فلا وجه لاعتبار رضاه وصيرورته طرفاً للعقد ، فتدبّر جيّداً .
لكن حيث إنّ إحضاره نوع تسلّط عليه ، وهو لا يكون مرضياً له عادةً ، فمقتضى الاحتياط الاستحبابي اعتبار رضاه وكونه طرفاً للعقد أيضاً .
1 ـ قد عرفت أنّ حقيقة الكفالة هي التعهّد بإحضار الشخص ببدنه ، وهي تصحّ في الموارد التالية :
الأوّل : أن يكون المكفول من عليه حقّ ماليّ ، ولا يعتبر العلم بمقدار ذلك المال . نعم ، يعتبر أن يكون المال ثابتاً في الذمّة بحيث يصحّ ضمانه ، فلو تكفّل بإحضار من لا مال عليه وإن وجد سببه الناقص ـ كالجاعل في الجعالة قبل أن يتحقّق العمل من العامل ـ لم تصحّ الكفالة .
الثاني : أن يكون المكفول من يستحقّ عليه الحضور في مجلس الشرع; بأن تكون عليه دعوى مسموعة ـ وقد ذكرت شرائط سماع الدعوى في كتاب
(الصفحة 396)مسألة 4 : يصحّ إيقاع الكفالة حالّة لو كان الحقّ ثابتاً على المكفول كذلك ومؤجّلة ، ومع الإطلاق تكون حالّة مع ثبوت الحقّ كذلك ، ولو كانت مؤجّلة يلزم تعيين الأجل بنحو لا يختلف زيادة ونقصاً1.
القضاء(1) ـ وإن لم تقم عليه البيِّنة بالحقّ .
الثالث : أن يكون المكفول من عليه عقوبة من حقوق الخلق غير ماليّ كعقوبة القصاص،فإنّه تصحّ الكفالة والتعهّدبإحضارمثله ليتمكّن من إعمال القصاص ومثله.
واستثنى في الذيل ما إذا كان المكفول من عليه عقوبة من حقوق الله تبارك وتعالى كالحدّ والتعزير ، والوجه فيه أنّ المستحقّ فيه هو الخالق دون الخلق حتّى الحاكم الشرعي ، فلا يستحقّ أحد عليه الحضور ، ولو ثبت استحقاقه للحدّ والتعزير . نعم ، مع حضوره والتمكّن منه يجري عليه الحكم بأمر الحاكم .
وقد ذكر الفقهاء ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في كتاب الحدود أنّ الزاني الذي حدّه الرجم إذا فرّ من الحفيرة التي جعل فيها لإجراء حدّ الرجم لا تجب إعادته إليها ، إمّا مطلقاً أو في بعض الصور(2) فراجع ، ومنه يظهر أنّ صورة اجتماع الحقّين كما في باب السرقة يجوز الكفالة فيه بالإضافة إلى حقّ الناس ، ولا تجوز بالنسبة إلى حقّ الله تعالى كما لا يخفى .
1 ـ إذا كان الحقّ الثابت على المكفول حالاًّ يصحّ إيقاع الكفالة كذلك
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة: كتاب القضاء والشهادات: 75 ـ 98.
- (2) المقنعة: 780 ، الكافي في الفقه: 407 ، المراسم العلويّة في الأحكام النبويّة: 254 ، الجامع للشرائع: 551 ، الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: 9 / 91 ، النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: 700 ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 412 .
(الصفحة 397)مسألة 5 : عقد الكفالة لازم لا يجوز فسخه إلاّ بالإقالة ، ويجوز جعل الخيار فيه لكلّ من الكفيل والمكفول له مدّة معيّنة1.
ومؤجّلة ، وأمّا إذا كان الحقّ الثابت عليه مؤجّلاً لا تصحّ الكفالة حالّة لفرض عدم ثبوت الحقّ عليه كذلك ، وإذا كانت مطلقة ينصرف الإطلاق إلى الحالّ لو كان الدَّين الثابت عليه كذلك ، وفي صورة التأجيل يلزم تعيين الأجل بنحو لا يختلف زيادةً ونقصاً; ليكون حقّ المكفول على الكفيل ظاهراً غير محتمل لذلك ـ أي للزيادة والنقيصة ـ حتّى يتحقّق موضوع للاختلاف والتشاجر ، ويتعيّن وضع كلّ واحد منهما .
1 ـ عقد الكفالة لازم كما هو مقتضى أصالة اللزوم في كلّ عقد شكّ في لزومه وجوازه ، مضافاً إلى أنّ الغرض من الكفالة لا يتحقّق إلاّ بذلك ، وعليه فلا يجوز فسخه إلاّ بالإقالة الجارية في كلّ عقد لازم ، ولا يجري فيه الخيارات المختصّة بالبيع كخياري المجلس والحيوان ، أو لا يكون لها موضوع هنا كخياري الغبن والعيب . نعم ، لا مانع من ثبوت جواز اشتراط الخيار لكلّ من الكفيل والمكفول له مع تعيين المدّة; لعموم «المؤمنون عند شروطهم »(1) .
ثمّ إنّ هنا فرعاً; وهو أنّه لو كان الكفيل متمكِّناً من الإحضار حال إيقاع عقد الكفالة ـ كما هو الشرط فيه على ما تقدّم ـ فعرض له العجز وعدم التمكّن بعد العقد ، فهل ينفسخ عقد الكفالة بذلك ، أم لا؟ الظاهر هو الأوّل ; لأنّه يرجع إلى عدم إمكان الوفاء بالعقد ، فهو بمنزلة تعذّر تسليم المبيع في البيع الطارئ بعد عقده الذي هو في رأس العقود اللازمة بالأصل ، كما لا يخفى .
(الصفحة 398)مسألة 6 : إذا تحقّقت الكفالة جامعة للشرائط ، جاز مطالبة المكفول له الكفيل بالمكفول عاجلاً إذا كانت الكفالة مطلقة ـ على ما مرّ ـ أو معجّلة ، وبعد الأجل إذا كانت مؤجّلة ، فإن كان المكفول حاضراً وجب على الكفيل تسليمه إلى المكفول له ، فإن سلّمه له بحيث يتمكّن منه فقد برئ ممّا عليه ، وإن امتنع عن ذلك يرفع الأمر إلى الحاكم ، فيحبسه حتّى يحضره أو يؤدّي ما عليه في مثل الدَّين . وأمّا في مثل حقّ القصاص والكفالة عن الزوجة فيلزم بالإحضار ، ويحبس حتّى يحضره ويسلّمه . وإن كان غائباً ، فإن علم موضعه ويمكن للكفيل إحضاره اُمهل بقدر ذهابه ومجيئه ، فإذا مضى ولم يأت به من غير عذر حبس كما مرّ ، وإن كان غائباً غيبة منقطعة لا يعرف موضعه وانقطع خبره ، فمع رجاء الظفر به مع الفحص لا يبعد أن يكلّف بإحضاره وحبسه لذلك ، خصوصاً إذا كان ذلك بتفريط منه .
وأمّا إلزامه بأداء الدَّين في هذه الصورة فمحلّ تأمّل . نعم ، لو أدّى تخلّصاً من الحبس يطلق ، ومع عدم الرجاء لم يكلّف بإحضاره ، والأقرب إلزامه بأداء الدَّين ، خصوصاً إذا كان ذلك بتفريط منه; بأن طالبه المكفول له وكان متمكِّناً منه ولم يحضره حتّى هرب . نعم ، لو كان عدم الرجاء للظفر به بحسب العادة حال عقد الكفالة يشكل صحّتها ، وأمّا لو عرض ذلك فالظاهر عدم عروض البطلان ، خصوصاً إذا كان بتفريط من الكفيل ، فلا يبعد حينئذ إلزامه بالأداء أو حبسه حتّى يتخلّص به ، خصوصاً في هذه الصورة1.
1 ـ إذا تحقّقت الكفالة جامعة للشرائط فحيث إنّها عقد لازم لا تنفسخ إلاّ بالإقالة أو مثلها ، كالخيار المشروط فيها على ما عرفت ، فإن كانت الكفالة معجّلة ، أو مطلقة منصرفة إلى المعجّلة يجوز للمكفول له مطالبة الكفيل بإحضاره
(الصفحة 399)
عاجلاً ، كما أنّه إذا كانت مؤجّلة يجوز ذلك له بعد حلول الأجل ، وفي هذا الفرض يتصوّر للمسألة صورتان :
الصورة الاُولى : ما إذا كان المكفول حاضراً ، ففي هذه الصورة يجب على الكفيل بعد المطالبة المذكورة تسليم المكفول إلى المكفول له ، فإن لم يمتنع عن ذلك سلّمه له بحيث يتمكّن منه ، فقد برئ الكفيل ممّا عليه من لزوم الإحضار ، وإن امتنع من ذلك يرفع الأمر إلى الحاكم لأنّه لابدّ منه ، فالحاكم حينئذ يحبس الكفيل حتّى يحضر المكفول له ، وحينئذ فإن كان ما عليه حقّ ماليّ لا يجب إلاّ أداؤه ، فيكفي الأداء من غير الحضور عند المكفول له ، وإن كان مثل حقّ القصاص والكفالة عن الزوجة فالمتعيّن الحبس حتّى يرضى بالإحضار; لفرض تمكّن الكفيل من ذلك .
الصورة الثانية : ما إذا كان المكفول غائباً ، فإن علم الكفيل موضعه ويمكن من إحضاره اُمهل بقدر مجيئه وذهابه ، فإذا مضت مدّة الإمهال ولم يأت به من غير عذر له في ذلك يحبس الكفيل ـ كما مرّ ـ لغرض العلم بموضعه والتمكّن من إحضاره ، وإن كان غائباً غيبة منقطعة لا يعرف موضعه وانقطع خبره ، فمع رجاء الظفر به مع الفحص قد نفى البُعد في المتن عن تكليف الحاكم إيّاه بإحضاره وحبسه لذلك ، خصوصاً إذا كان ذلك بتفريط منه ، وفسّر التفريط في الفرع الآتي بأن طالبه المكفول له وكان الكفيل متمكِّناً منه ولم يحضره حتّى هرب ، وقد تأمّل في إلزامه بأداء الدَّين في هذه الصورة .
والوجه فيه ظاهراً أنّ الواجب عليه بمقتضى عقد الكفالة هو إحضار المكفول عند المكفول له . وأمّا الدَّين فلا يرتبط به ولا يصير مديوناً ، وعدم الوفاء بعقد الكفالة ليس إلاّ المخالفة للحكم التكليفي ، ولا يوجب اشتغال الذمّة وثبوت الحكم الوضعي . نعم ، لو أدّى برضاه تخلّصاً من الحبس يصير كالمتبرّع بأداء دين الغير ،