(الصفحة 191)
القول في أحكام الدَّين
مسألة 1 : الدَّين إمّا حالّ ، فللدائن مطالبته واقتضاؤه ، ويجب على المديون أداؤه مع التمكّن واليسار في كلّ وقت ، وإمّا مؤجّل ، فليس للدائن حقّ المطالبة ، ولا يجب على المديون القضاء إلاّ بعد انقضاء المدّة المضروبة وحلول الأجل ، وتعيين الأجل تارةً بجعل المتداينين كما في السلم والنسيئة ، واُخرى بجعل الشارع كالنجوم والأقساط المقرّرة في الدية1.
دين الله أحقّ أن يقضى(1) ، ويؤيّده التعبير عنه في الكتاب بـ «اللام» و«على» في قوله تعالى :
{وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ . . .}(2) الآية ، ولكن الظاهر أنّ هذا الإطلاق مسامحي ، ومنشؤه ثبوت القضاء فيها كوجوب قضاء الدَّين ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ أمّا الدَّين الحالّ ، فيجوز للدائن المطالبة والاقتضاء ، ويجب على المديون الأداء مع التمكّن واليسار في كلّ وقت ، وإذا لم يؤدّ في هذه الحالة فمقتضى قوله (صلى الله عليه وآله) : ليّ الواجد بالدين يحلّ عقوبته ، أو مع إضافة عرضه(3) ، أنّ التأخير مع الوجدان والقدرة على الأداء موجب لحلية عقوبته ، بل ومع عرضه ، وأمّا مع عدم الإمكان واليسار ، فمقتضى قوله تعالى :
{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة}(4) في مورد ذي العسرة ، لزوم التأخير إلى اليسار ، لكن هنا بحث قد تقدّم تفصيله في كتاب القضاء(5); وهو أنّه مع
- (1) المعجم الكبير للطبراني: 12/12 ـ 13 ح12330 ـ 12332 .
- (2) سورة آل عمران : 3/97 .
- (3) أمالي الطوسي 520 ح1146 ، وعنه الوسائل: 18/334 ، كتاب التجارة ، أبواب الدين والقرض ب8 ح4 .
- (4) سورة البقرة : 2/279 .
- (5) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب القضاء: 110 ـ 115 .
(الصفحة 192)
عدم اليسار هل يجب عليه التكسّب وإيجاد اليسار ليؤدّي دينه ، أو لا يجب عليه التكسّب بوجه ، بل إن صار موسراً أحياناً يجب ذلك ، أو تفصيل بين التكسّب المناسب لشأنه عادةً، أو التكسّب غير المناسب؟ وقد تقدّم التحقيق في هذه الجهة في كتاب القضاء(1) ، ولا حاجة إلى الإعادة بوجه .
هذا في الدَّين الحالّ ، وأمّا في الدَّين المؤجّل ، فلا يجوز المطالبة للدائن ، ولا يجب على المديون القضاء إلاّ بعد انقضاء المدّة المضروبة وحلول الأجل ; لعدم صدق الدائن والمديون قبل الحلول وانقضاء المدّة ، وقد تقدّم(2) بعض الروايات الدالّة على أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يحبس في الدَّين ، فإذا انكشف الحال وأنّه غير قادر على القضاء يطلقه إلى زمان اليسار وإمكان الأداء .
وكيف كان ، فتعيين الأجل قد يكون بجعل المتداينين كما في السلم والنسيئة وأمثالهما ، وقد يكون بجعل الشارع كالنجوم والأقساط المقرّرة في الدية المختلفة بحسب كون القتل خطأً الذي تكون الدية فيه على العاقلة ، أو شبه العمد الذي تكون الدية فيه على القاتل نفسه ، وقد فصّلنا الكلام في هذا المجال في كتاب الديات من شرح هذا الكتاب المطبوع قبل سنتين(3) ، فراجع .
ثمّ إنّ في بعض الشروح: أنّ هذا الحصر استقرائي شرعي ، ويمكن أن يكون عقليّاً أيضاً; إذ لا يعقل تعيين المدّة لمن لا يكون مسلّطاً عليها ، والمسلّط عليها إمّا الشارع أو المتداينان ، ولا ثالث في البين إلاّ الظالم ، ولا اعتبار بتعيينه بالضرورة(4) ، والأمر سهل كما لايخفى .
- (1 ، 2) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب القضاء: 110 ـ 115 .
- (3) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الديات: 30 ـ 31 .
- (4) مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام: 21/7 .
(الصفحة 193)مسألة 2 : لو كان الدَّين حالاًّ أو مؤجّلاً وقد حلَّ أجله ، فكما يجب على المديون الموسر أداؤه عند مطالبة الدائن ، كذلك يجب على الدائن أخذه وتسلّمه إذا صار المديون بصدد أدائه وتفريغ ذمّته . وأمّا الدَّين المؤجَّل قبل حلول أجله فلا إشكال في أنّه ليس للدائن حقّ المطالبة ، وإنّما الإشكال في أنّه هل يجب عليه القبول لو تبرّع المديون بأدائه أم لا؟ وجهان بل قولان ، أقواهما الثاني ، إلاّ إذا علم بالقرائن أنّ التأجيل لمجرّد إرفاق على المديون من دون أن يكون حقّاً للدائن1.
1 ـ لو كان الدَّين حالاًّ أو مؤجّلاً وقد حلّ أجله وانقضت مدّته ، فكما يجب على المديون الموسر أداؤه عند مطالبة الدائن ، كذلك يجب على الدائن أخذه وتسلّمه إذا صار المديون بصدد أدائه وتفريغ ذمّته خوفاً من الإعسار أو من الموت ، وعدم قيام الورثة بالأداء ، أو حبّاً لعدم اشتغال ذمّته في نفسه ، والظاهر أنّه لا خلاف فيه أيضاً ، كما أنّه في العين المغصوبة إذا أراد الغاصب ردّها إلى صاحبها يجب عليه القبول ، ولايجوز له المماطلة إلى أن تتلف مثلاً ، فيتحقّق الانتقال إلى المثل أو القيمة .
وأمّا الدَّين المؤجّل قبل حلول أجله وانقضاء مدّته ، فقد عرفت أنّه ليس للدائن حقّ المطالبة ; لعدم ثبوت الدَّين بعد ، إنّما الإشكال في أنّه هل يجب عليه القبول لو أراد المديون التبرّع بالأداء قبل الأجل ، أو لا يجب ؟ فيه وجهان بل قولان ، وظاهر المتن التفصيل بين ما إذا علم بالقرائن أنّ التأجيل لمجرّد إرفاق على المديون من دون أن يكون حقّاً للدائن ، فيجب القبول حينئذ لفرض عدم التأجيل في الدَّين ، بل هو حالّ على كلّ حال ، والتأخير إرفاق بالنسبة إلى المديون لا أن يكون من ثبوت حقّ في البين ، وقد عرفت أنّه في الدَّين الحالّ يجب على الدائن الأخذ والتسلّم إذا صار المديون بصدد أداء دينه وتفريغ ذمّته ، وهذا التفصيل هو الأقوى .
(الصفحة 194)مسألة 3 : قد عرفت أنّه إذا أدّى المديون دينه الحالّ يجب على الدائن أخذه ، فإذا امتنع أجبره الحاكم لو التمس منه المديون ، ولو تعذّر إجباره أحضره عنده ومكّنه منه بحيث صار تحت يده وسلطانه عرفاً ، وبه تفرغ ذمّته ، ولو تلف بعد ذلك فلا ضمان عليه . ولو تعذّر عليه ذلك فله أن يسلّمه إلى الحاكم ، وبه تفرغ ذمّته . وهل يجب على الحاكم القبول؟ فيه تأمّل وإشكال . ولو لم يوجد الحاكم فهل له أن يعيّن الدَّين في مال مخصوص ويعزله؟ فيه تأمّل وإشكال . ولو كان الدائن غائباً ولا يمكن إيصاله إليه ، وأراد المديون تفريغ ذمّته أوصله إلى الحاكم عند وجوده ، وفي وجوب القبول عليه الإشكال السابق . ولو لم يوجد الحاكم يبقى في ذمّته إلى أن يوصله إلى الدائن ، أو من يقوم مقامه1.
1 ـ إذا امتنع المديون من أداء دينه الحالّ ، فإذا التمس الدائن من الحاكم ذلك يجب عليه إجباره له ، أمّا الوجوب على الحاكم فلكون مثل ذلك من الاُمور الحسبية التي يختصّ القيام بها بالحاكم أو المأذون من قبله مع وجودهما ، وأمّا توقّفه على التماس الدائن ، فلأنّ الحقّ حقّه ، ويمكن له الإغماض عنه وإسقاط حقّه ، كما أنّه يمكن له التأجيل إرفاقاً ومسامحةً ، فالإجبار متوقّف على الالتماس ، ولو تعذّر إجباره أحضره الحاكم عنده ومكّن الدائن منه بحيث صار تحت يده وسلطانه عرفاً ، ويحصل به فراغ ذمّته لفرض تحقّق الوفاء ، ويتفرّع عليه أنّه لو تلف بعد ذلك فلا ضمان على المديون للفرض المذكور .
ولو تعذّر على المديون أداء الدَّين إلى الدائن فله أن يسلّمه إلى الحاكم; لأنّه وليّ من لا وليّ له وتفرغ ذمّته بذلك ، وهل يجب على الحاكم القبول؟ فقد استشكل فيه في المتن ، ووجه الإشكال أصالة عدم الوجوب عليه ، وأنّه لا فرق ظاهراً بين
(الصفحة 195)
وجوب الإجبار ووجوب القبول بعد كون كلاهما من الاُمور الحسبيّة المتقدِّمة ، ولعلّه الظاهر . ولو لم يوجد الحاكم فهل للمديون أن يعيّن الدَّين في مال مخصوص ويعزله؟ فقد تأمّل فيه في المتن واستشكل أيضاً ، ووجهه أنّ التعيّن في مال مخصوص إنّما يحصل بقبض صاحب المال كما في بيع النسيئة والسلم ، وأمّا مجرّد تعيين المديون وحتّى عزله فلا يؤثّر في التعيّن ، وأنّه مع عدم وجود الحاكم أو المأذون من قبله لا يبعد الالتزام بالتعيّن بتعيين نفسه ، ولعلّ الظاهر هو الأوّل .
ولو كان الدائن غائباً ولا يمكن إيصاله إليه ، وأراد المديون تفريغ ذمّته أوصله إلى الحاكم عند وجوده لما مرّ ، وفي وجوب القبول عليه ما تقدّم ، ولو لم يوجد الحاكم يبقى المال في ذمّته إلى أن يوصله إلى الدائن ، أو من يقوم مقامه; لأصالة بقاء الاشتغال وعدم الفراغ إلاّ بذلك .
وهنا خبر يدلّ على التصدّق قليلاً قليلاً ، وهي رواية نصر بن حبيب قال : كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) : لقد وقعت عندي مائتا درهم وأربعة دراهم وأنا صاحب فندق ومات صاحبها ولم أعرف له ورثة ، فرأيك في إعلامي حالها وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعاً ، فكتب (عليه السلام) : إعمل فيها وأخرجها صدقة قليلاً قليلاً حتّى تخرج(1) .
ولكنّها مُعرض عنها ظاهراً مع معارضتها للخبر الآخر(2) الدالّ على وجوب الإبقاء أمانة في صورة بقاء المالك وعدم موته .
- (1) الكافي: 7/153 ح3 ، تهذيب الأحكام: 9/389 ح1389 ، الاستبصار: 4/197 ح740 ، وعنها الوسائل: 26/297 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الخنثى ب6 ح3 .
- (2) الكافي: 7/154 ح4 ، تهذيب الأحكام: 9/389 ح1390 ، الاستبصار: 4/197 ح738 ، وعنها الوسائل: 26/298 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الخنثى ب6 ح4 .