(الصفحة 288)
كلمة البلوغ بإطلاقها لم تكن مستعملة في كلام الشارع ، وفي مثل قوله تعالى :
{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}(1) أو
{وَإذا بَلَغَ الأَطْفَالا مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}(2)؟ لا إشكال في أنّ المراد بالبلوغ فيه هو البلوغ بمعناه اللغوي; لأنّ البلوغ الشرعي يستفاد من البلوغ المضاف إلى النكاح أو الحلم .
وأمّا الروايات ، فالتعبير فيها بين قوله : رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم ، أو لا يتم بعد احتلام(3) ، وأمثال ذلك ، وليس فيها التعبير بالبلوغ بعنوانه ، وعليه فيحتمل قويّاً أن يكون البلوغ له معنى عرفيّ ، والأمارات الثلاثة المجعولة من قبل الشارع أمارات شرعية لهذا الأمر العرفي الذي يكون مختلفاً حسب اختلاف المناطق أو اختلاف الأفراد ، والسرّ في جعل الأمارة الشرعيّة لهذا الأمر العرفي خفاؤه على نفس العرف ، ولا أقلّ بحسب الاختلاف المذكور ، نظير جعل الأمارة الشرعيّة على العدالة التي هو أمر شرعي; لأجل خفائها وكونها من الاُمور الباطنية والملكات النفسانية .
ولعلّ التعبير بالبلوغ اقتباس من الأمارة االثالثة التي هي بلوغ السنّ المذكور ، أو من مثل الآيتين المذكورتين ، وإلاّ فقد عرفت عدم وقوع هذا العنوان بإطلاقه في شيء من الأدلّة الشرعيّة ، لكن الأمر سهل بعد عدم ترتّب ثمرة مهمّة على هذا البحث; لعدم ثبوت قلم التكليف مع عدم شيء من الأمارات الثلاثة وثبوته مع وجود واحدة منها .
وكيف كان ، فالروايات الواردة في هذه العلامة كثيرة :
- (1) سورة النساء: 4/6 .
- (2) سورة النور: 24/59 .
- (3) تقدّم في ص281 .
(الصفحة 289)
منها : صحيحة ابن محبوب ، عن عبد العزيز العبدي ، عن حمزة بن حمران ، عن حمران قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) قلت له : متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة ، وتقام عليه ويؤخذ بها؟ فقال : إذا خرج عنه اليتم وأدرك ، قلت : فلذلك حدّ يُعرف به؟ فقال : إذا احتلم ، أو بلغ خمس عشرة سنة ، أو أشعر ، أو أنبت قبل ذلك اُقيمت عليه الحدود التامّة ، واُخذ بها واُخذت له ، قلت : فالجارية متى تجب عليها الحدود التامّة وتؤخذ بها ويؤخذ لها؟
قال : إنّ الجارية ليست مثل الغلام ، إنّ الجارية إذا تزوّجت ودُخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليُتم ، ودفع إليها مالها ، وجاز أمرها في الشراء والبيع ، واُقيمت عليها الحدود التامّة ، واُخذ لها بها ، قال : والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ، ولا يخرج من اليُتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة ، أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك(1) .
والإشكال في حمزة مندفع بكونه من آل أعين المعلوم جلالتهم وعلوّ شأنهم في الشيعة كثير الرواية (قدس سره) ، مع أنّ رواية جماعة من الأجلاّء عنه تكشف عن وثاقته وإن لم يكن مصرّحاً بها ، وقد ذكرنا نظير ذلك في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المشهورة الواردة في تعريف العدالة وبيان الأمارة الشرعيّة عليها(2) ، وبمثله يرتفع الإشكال عن عبد العزيز غير المصرّح بوثاقته .
ومنها : رواية يزيد الكناسي ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليُتم ، وزوّجت ، واُقيمت عليها الحدود التامّة ، لها وعليها . قال :
- (1) الكافي: 7/197 ح1 ، مستطرفات السرائر: 86 ذح34 ، وعنهما الوسائل: 1/43 ، أبواب مقدّمة العبادات ب4 ح2 .
- (2) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الاجتهاد والتقليد ، أوائل مسألة 29 .
(الصفحة 290)
قلت : الغلام إذا زوّجه أبوه ودخل بأهله وهو غير مدرك أتقام عليه الحدود وهو على تلك الحال؟ قال : فقال : أمّا الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجال فلا ، ولكن يجلد في الحدود كلّها على مبلغ سنّه ، فيؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة ، ولا تبطل حدود الله في خلقه ، ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم(1) . والظاهر أنّ روايته الاُخرى(2) متّحدة مع هذه الرواية ، ولا تكون رواية اُخرى كما أشرنا إليه مراراً .
ومنها : صحيحة ابن وهب ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) : في كم يؤخذ الصبي بالصيام؟ قال : ما بينه وبين خمس عشرة سنة وأربع عشرة سنة ، فإن هو صام قبل ذلك فدعه(3) .
قال في الجواهر : بناءً على إرادة معنى «أو» من «الواو» فيها ، بل عن النهاية روايته بها(4) ، بل لابدّ من كون المراد ذلك; لاستحالة الجمع هنا كما هو ظاهر ، وحينئذ فمقتضى السياق والترديد كون ما تقدّم عليهما وقتاً للتمرين والأخذ على سبيل التأديب ، فيكون البلوغ حينئذ بأحدهما ويمتنع أن يكون الأقلّ ، وإلاّ لم يكن الزمان المتوسّط بينه وبين الأكثر تمرينيّاً ، فيتعيّن كونه الأكثر ، ولعلّ النكتة في الترديد ، التنبيه على الفرق بين المتوسّط بينهما والمتقدِّم عليهما في التضييق وعدمه
- (1) الكافي: 7/198 ح2 ، تهذيب الأحكام: 10/38 ح133 ، وعنهما الوسائل: 28/20 ، كتاب الحدود والتعزيرات ، أبواب مقدّمات الحدود ب6 ح1 .
- (2) وسائل الشيعة: 20/278 ، كتاب النكاح ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب6 ح9 .
- (3) الكافي: 4/125 ح2 ، الفقيه: 2/76 ح332 ، تهذيب الأحكام: 4/326 ح1012 ، وعنها الوسائل: 10/233 ، كتاب الصيام ، أبواب من يصحّ منه الصوم ب29 ح1 .
- (4) لم نجده في النهاية . نعم رواها في التهذيب: 2/331 ح1590 والاستبصار: 1/409 ح1563 بـ «أو» .
(الصفحة 291)
بالنسبة إلى التمرين ، فإنّ الصبي يضيّق عليه فيما بين الأربعة عشر ، والخمسة عشر بخلاف ما تقدّم من الزمان ، فإنّه لا يضيّق عليه لبُعده عن البلوغ(1) .
ومنها : روايته الاُخرى(2) التي لا تكون رواية مستقلّة ، وإن جعلتا متعدّدتين في الوسائل وتبعه غيره ، بل وإن كان بينهما اختلاف زيادة ونقيصة في الجملة .
ومنها : ما رواه في الخصال بإسناده عن العبّاس بن عامر ، عمّن ذكره ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : يؤدّب الصبيّ على الصوم ما بين خمس عشرة سنة إلى ستّ عشرة سنة(3) .
ومنها : مرسلة مقنع الصدوق قال: روي أنّ الغلام يؤخذ بالصيام ما بين أربع عشرة إلى ستّ عشرة سنة إلاّ أن يقوى قبل ذلك(4) .
والظاهر أنّ المراد بهما هي تماميّة ما قبل ستّ عشرة والدخول فيها الذي به تعرف التماميّة المذكورة نوعاً ، وإلاّ لم يكن وجه لذكر ستّ عشرة لو كان البلوغ متحقِّقاً قبلها ، وهو الذي نسب إلى الشهرة(5) ، بل إلى أصحابنا(6) .
وكيف كان ، لا ينبغي الارتياب في أنّ البلوغ الحاصل بالسنّ إنّما يتحقّق بإكمال عدد الخمس عشرة سنة ، هذا بالنسبة إلى الغلام .
وأمّا بالإضافة إلى الجارية فمقتضى جملة من الروايات المتقدِّمة تحقّق البلوغ
- (1) جواهر الكلام: 26/27 .
- (2) وسائل الشيعة: 4/18 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ب3 ح1 .
- (3) الخصال: 501 ح3 ، وعنه الوسائل: 10/237 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ب29 ح13 .
- (4) المقنع: 195 ، وعنه الوسائل: 10/237 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ب29 ح14 .
- (5) المهذّب البارع: 2/512 ، مفاتيح الشرائع: 1/14 ، الحدائق الناضرة: 20/348 ، رياض المسائل: 8/552 .
- (6) مسالك الأفهام: 4/144 ، كفاية الأحكام: 112 .
(الصفحة 292)
فيها بإكمال التسع كما هو المشهور بين الأصحاب(1) ، بل كما في الجواهر هو الذي استقرّ عليه المذهب(2) خلافاً للشيخ في صوم المبسوط ، وابن حمزة في خمس الوسيلة فبالعشر(3) ، إلاّ أنّ الشيخ قد رجع عنه في كتاب الحجر فوافق المشهور(4) ، بل وكذا الثاني في كتاب النكاح منها(5) ، بل قد يرشد ذلك منهما إلى إرادة توقّف العلم بكمال التسع على الدخول في العشر ، وهناك أيضاً روايات اُخرى دالّة على ذلك ، بل يظهر من بعضها الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ ، وأنّه حيث لا يجوز الدخول بها قبل إكمال التسع كذلك لا يتحقّق البلوغ فيها قبلها .
ولكن في المقابل رواية واحدة دالّة على الخلاف; وهي رواية عمّار الساباطي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ فقال : إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة ، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم ، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة ، أو حاضت قبل ذلك ، فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم(6) . ولكن اُورد عليها بإيرادات :
الأوّل : أنّه ذكر الشيخ في محكي التهذيب والاستبصار أنّ جماعة من أهل النقل قد ضعّفوا عمّار الساباطي وذكروا أنّ ماينفرد بنقله لا يعمل به; لانّه كان فطحياً(7) ، والعلاّمة في محكي الخلاصة جعل رواياته مرجّحة
- (1) مسالك الافهام: 4/145 ، مفاتيح الشرائع: 1/14 ، الحدائق الناضرة: 20/348 .
- (2) جواهر الكلام : 26/38 .
- (3) المبسوط: 1/266 ، الوسيلة: 137 .
- (4) المبسوط: 2/282 .
- (5) الوسيلة: 301 .
- (6) تهذيب الأحكام : 2/380 ح1588 ، وعنه الوسائل: 1/45 ، أبواب مقدّمة العبادات ب4 ح12 .
- (7) تهذيب الأحكام: 7/101 ذح435 ، الاستبصار: 3/95 ذح325 .