(صفحه192)
ثمّ إنّ كلام المحقّق العراقي رحمهالله وإن كان حقّاً في أحد شقّي تفصيله، وهو القولبعدم جريان البراءة الشرعيّة بناءً على كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوبالموافقة القطعيّة، إلاّ أنّه استدلّ على ذلك بدليل مخدوش عندنا.
فإنّه بعد القول بجريان الاُصول الشرعيّة النافية للتكليف بالأكثر بناءً علىمسلك الاقتضاء، قال:
وأمّا بناءً على علّيّة العلم الإجمالي للموافقة القطعيّة ومنعه من جريانالأصل النافي ولو في بعض أطرافه بلا معارض كما هو المختار، فالتفكيك بينالبراءة العقليّة والشرعيّة في غاية الإشكال، إذ بعد انتهاء الأمر بمقتضى علّيّةالعلم الإجمالي إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط ولزوم تحصيل الجزم بالفراغولو جعليّاً(1) لا مجال لجريان الاُصول النافية(2) ولو في فرض كونها بلمعارض، إلاّ على فرض اقتضاء جريانها لإثبات أنّ الواجب الفعلي هو الأقلّولو ظاهراً كي ببركة إثباته ذلك يكون الإتيان به فراغاً جعليّاً عمّا ثبت فيالعهدة، وهو أيضاً في محلّ المنع، لمنع اقتضاء مجرّد نفي وجوب الأكثروالخصوصيّة الزائدة لإثبات هذه الجهة إلاّ على القول بالمثبت الذي لا نقولبه.
نعم، قد يتوهّم تكفّل مثل حديث الرفع لإثبات ذلك، بتقريب أنّ الحديثناظر إلى إطلاقات أدلّة الجزئيّة واقعاً، بتقييد مفاد فعليّتها بحال العلم بها وأنّهبرفع فعليّة التكليف عن المشكوك واقعاً مع ضميمة ظهور بقيّة الأجزاء فيالفعليّة يرتفع الإجمال من البين ويتعيّن كون متعلّق التكليف الفعلي هو الأقلّ،وبالإتيان به يتحقّق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف.
- (1) مراده من الفراغ الجعلي ما يجعله الشارع فراغاً. منه مدّ ظلّه.
- (2) كاستصحاب عدم وجوب الأكثر والخصوصيّة الزائدة. م ح ـ ى.
ج5
ولكنّه كماترى، لمنع صلاحيّة حديث الرفع لأن يكون ناظراً إلى نفي فعليّةالتكليف عن المشكوك واقعاً، إذ مفاد الرفع فيه ـ كما أوضحناه في محلّه عندالتعرّض لشرح الحديث ـ إنّما هو مجرّد الرفع الظاهري الثابت في المرتبةالمتأخّرة عن الجهل بالواقع، ومثله غير صالح لتقييد إطلاق الجزئيّة الواقعيّةالمحفوظة حتّى بمرتبة فعليّتها في المرتبة السابقة عن تعلّق الجهل بها، كيف، وبعدأن كانت العناوين المأخوذة في الحديث التي منها عنوان «ما لا يعلم» منالجهات التعليليّة للرفع والمانعة عن تأثير ما يقتضي إنشاء الحكم، لا محيصمن أن يكون الرفع في المرتبة المتأخّرة عن الجهل بالواقع، ولازمه بعد عدمشمول إطلاق الواقع حتّى بمرتبة فعليّته لمرتبة الجهل بنفسه هو امتناع تعلّقالرفع في تلك المرتبة بالجزئيّة الواقعيّة المحفوظة في المرتبة السابقة على الجهلبها، لاستحالة ورود الرفع في ظرف الجهل بشيء على الشيء الملحوظ كونه فيالمرتبة السابقة على الجهل بنفسه.
ولأنّ رفع كلّ شيء عبارة عن نقيضه وبديله، فلا يمكن أن يكون الرفع فيهذه المرتبة نقيضاً لما هو في المرتبة السابقة، لأنّ وحدة الرتبة بين النقيضين منالوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضادّ.
وحينئذٍ فلو كانت مقتضيات الفعليّة في المرتبة السابقة على الجهل متحقّقة،لا يكاد يصلح مثل هذا الحديث للمانعيّة عنها كي يستكشف بمعونة ظهور أدلّةبقيّة الأجزاء في الفعليّة تحديد دائرة الواجب الفعلي بالأقلّ، ومعه يبقى العلمالإجمالي على حاله في تأثيره في وجوب الاحتياط.
وتوهّم أنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي، لكونه فيالمرتبة المتأخّرة عن الشكّ في الحكم الواقعي الذي هو أيضاً متأخّر في الرتبةعن نفس وجوده، إلاّ أنّ الحكم الواقعي ـ ولو بنتيجة الإطلاق ـ يكون في
(صفحه194)
مرتبة الحكم الظاهري، وبذلك أمكن تعلّق الرفع في تلك المرتبة بفعليّة الحكمالواقعي، مدفوع، بأنّه مع الاعتراف بكون الحكم الظاهري في طول الحكمالواقعي كيف يمكن توهّم كون الحكم الواقعي ـ ولو بنتيجة الإطلاق ـ فيعرض الحكم الظاهري وفي مرتبته؟! فإنّ مرجع طوليّة الحكم الظاهري بعدأن كان إلى أخذ الشكّ في الحكم الواقعي في موضوعه كيف يعقل أن يكونالحكم الواقعي في مرتبة الشكّ بنفسه؟! وهل هو إلاّ دعوى أنّ المعروض فيمرتبة عارضه؟!
نعم، الحكم الواقعي يجتمع مع الحكم الظاهري زماناً، ولكن اجتماعه معهزماناً لا يقتضي اجتماعهما رتبةً، بل كلّ منهما حينئذٍ محفوظ في رتبة نفسه بلتعدّيه من مرتبة إلى مرتبة، كاجتماع العلّة مع معلولها، كما هو ظاهر(1)، إنتهىموضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد دليل المحقّق العراقي رحمهالله في المسألة
ويرد عليه أوّلاً: أنّ الوجدان شاهد على عدم توقّف الشكّ بالواقع علىثبوت الواقع، كيف وأنت تشكّ في أنّ زيداً جاء من السفر أم لا؟ مع أنّه لم يجئواقعاً، فكيف يكون الجهل بالواقع متأخّراً عنه رتبةً.
على أنّ الجهل بالواقع لو كان متأخّراً عنه لم يستقرّ شكّ أصلاً، بل انقلبإلى العلم بالواقع في جميع الموارد، لأنّ كلّ شاكّ يلتفت لا محالة إلى أنّ شكّهبالواقع متأخّر عن ثبوت الواقع، فيصير عالماً به.
وثانياً: أنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في مرتبة الواقعي، إلاّ أنّ الواقعييكون في مرتبة الحكم الظاهري، وقد بيّناه سابقاً في مبحث الجمع بين الحكم
- (1) نهاية الأفكار 3: 390.
ج5
الواقعي والظاهري(1).
إن قلت: إنّ الإطلاق وإن كان يعمّ الحالات التي تكون في عرض الحكم،كحالتي الإيمان والكفر فيما إذا قال المولى: «أعتق رقبة» إلاّ أنّه لا يكاد يعمّالحالات التي تتأخّر رتبتها عن رتبة الحكم، كالعلم بالحكم والجهل به علىفرض تأخّرهما عنه.
قلت: الفرق بين الحالات المقارنة للحكم والمتأخّرة عنه في شمول الإطلاقوعدمه إنّما يصحّ لو قلنا بكون الإطلاق عبارة عن الشمول والسريان ـ كمعليه المشهور ـ كي يكون ناظراً إلى الحالات المختلفة.
لكنّك قد عرفت(2) في مبحث المطلق والمقيّد أنّ الإطلاق عبارة عن كونموضوع الدليل هو «الطبيعة» بدون دخل قيد آخر فيها، سواء كان من القيودالتي تكون في عرض الحكم، كالإيمان والكفر، أو من القيود المتأخّرة عنه،كالعلم والجهل به.
وبالجملة: إنّ الحكم الواقعي ـ أعني جزئيّة السورة مثلاً ـ يكون متحقّقفي مرتبة الرفع الذي يستفاد من حديث الرفع، فلا مانع من تقييد الحديثلدليل الجزئيّة.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّه على القول بجريان البراءة العقليّة في الشكّفي الجزئيّة ـ كما نحن نقول به ـ تجري البراءة الشرعيّة أيضاً، ولكن بناءً علىالقول بعدم انحلال العلم الإجمالي ولزوم الاحتياط عقلاً فلا مجال للبراءةالشرعيّة أصلاً، فالتفكيك بين البراءة العقليّة والشرعيّة بالقول بلزومالاحتياط عقلاً وجريان البراءة شرعاً ـ كما فعله المحقّق الخراساني رحمهالله ـ غير
- (1) راجع ص185 من الجزء الرابع.
- (2) راجع ص449 من الجزء الثالث.
(صفحه196)
صحيح، كما أنّ الالتزام بلزوم الاحتياط عقلاً والتفصيل في البراءة الشرعيّةبين القول بكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وبين القولبكونه مقتضياً له ـ كما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمهالله ـ أيضاً غير صحيح.
هذا تمام الكلام في الشكّ في الجزئيّة.