ولا فرق في الجهة المبحوث عنها بين أن يكون منشأ انتزاع الشرطيّة أمرخارجاً عن المشروط مبايناً معه في الوجود، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة(1)،وبين أن يكون متّحداً مع المشروط وقائماً به، كالإيمان بالنسبة إلىالرقبة.
هذا أحد مواضع البحث.
والموضع الآخر: أن يردّد المأمور به بين الجنس والنوع، كما إذا شكّ في أنّهنذر إطعام حيوان أو إطعام إنسان.
الطبيعي وفرده، كما إذا شكّ في أنّ المأمور به هل هو إكرام الإنسان أو إكرامخصوص زيد.
القول في جريان البراءة العقليّة في هذه الموارد
فهل يحكم العقل بلزوم الاحتياط مطلقاً، فيجب إتيان الصلاة مع الطهارةوعتق الرقبة المؤمنة في الأوّل، وإطعام خصوص الإنسان في الثاني، وإكرامخصوص زيد في الثالث، أو يحكم بالبراءة مطلقاً، أو يحكم بالتفصيل بين هذهالمواضع الثلاثة، فيحكم بالبراءة فيما إذا كان الدوران بين المطلق والمشروط،وبالاحتياط فيما إذا كان الترديد بين الجنس والنوع، أو بين النوع ومصداقه؟
في المسألة احتمالات ثلاثة.
نظريّة صاحب الكفاية رحمهالله في المسألة
ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى الأوّل، حيث قال:
ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه، وبين الخاصّـ كالإنسان ـ وعامّه ـ كالحيوان ـ وأنّه لا مجال هاهنا للبراءة عقلاً(1).
ثمّ ادّعى رحمهالله أنّ عدم جريان البراءة العقليّة هاهنا أظهر من عدم جريانها فيالشكّ في الجزئيّة، لأنّ حكم العقل بالبراءة مبنيّ على انحلال العلم الإجمالي،ويمكن توهّم الانحلال هناك، لأنّ كلّ جزء من الأجزاء الخارجيّة(2) للمأموربه يصحّ أن يتّصف بالوجوب الغيري، فيمكن أن يقال: إنّ الصلاة بلا سورةمثلاً واجبة قطعاً، إمّا بالوجوب النفسي أو الغيري، ووجوب السورة
- (2) الأجزاء الخارجيّة: هي الأجزاء الواقعيّة التي تقابلها الأجزاء التحليليّة. م ح ـ ى.
(صفحه200)
مشكوك، فانحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي، ولكن لمجال لهذا التوهّم هاهنا، لأنّ قيد المأمور به لا يكون جزءً له، بل التقيّد جزءتحليلي له، والأجزاء التحليليّة لا تكاد تتّصف باللزوم الغيري المقدّمي،فالصلاة المتحقّقة في ضمن الصلاة الواجدة للطهارة مباينة للصلاة المتحقّقة فيضمن الصلاة الفاقدة لها، فيرجع الأمر إلى المتباينين، فيجب الاحتياط عقلاً(1).
هذا ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
أقول: الأصل في كلامه ما ذهب إليه الفلاسفة، من أنّ نسبة الكلّي الطبيعيإلى أفراده كنسبة الآباء المتعدّدة إلى أبنائهم(2).
فإنّه رحمهالله تخيّل ـ على ما هو ظاهر كلامه وصريح كلام المحقّق العراقي رحمهالله ـ أنّالفلاسفة أرادوا أنّ الطبيعي يتحصّص إلى حصص متعدّدة بعدد الأفراد، بحيثكان المتحقّق في ضمن كلّ فرد حصّة من الطبيعي المطلق غير الحصّة المتحقّقةفي ضمن فرد آخر، كالصلاتيّة المتحقّقة في ضمن الصلاة مع الطهارة بالقياسإلى الصلاتيّة المتحقّقة في ضمن الصلاة بلا طهارة، وكالحيوانيّة الموجودة فيضمن الإنسان بالقياس إلى الحيوانيّة الموجودة في ضمن نوع آخر ـ كالبقروالغنم ـ وكالإنسانيّة المتحقّقة في ضمن زيد بالقياس إلى الإنسانيّة المتحقّقة فيضمن عمرو وبكر، فلا محالة في فرض الدوران بين وجوب إكرام مطلقالإنسان أو خصوص زيد(3) لا يكاد يكون الطبيعي المطلق القابل للانطباقعلى حصّة اُخرى محفوظاً في ضمن زيد، كي يمكن دعوى العلم بوجوبه على
- (2) خلافاً للرجل الهمداني الذي ذهب إلى أنّ الكلّي الطبيعي موجود واحد مرئيّ وقد رآه في جبال همدان،ويكون نسبته إلى أفراده كنسبة الأب الواحد إلى الأبناء المتعدّدة. منه مدّ ظلّه.
- (3) وكذلك فرض الدوران بين وجوب مطلق الصلاة أو خصوص الصلاة مع الطهارة، وفرض الدوران بينوجوب إطعام مطلق الحيوان أو خصوص الإنسان. م ح ـ ى.
ج5
أيّ حال، لأنّ ما هو محفوظ في ضمنه إنّما هي الحصّة الخاصّة من الطبيعي،ومع تغاير هذه الحصّة مع الحصّة الاُخرى المحفوظة في ضمن فرد آخر كيفيمكن دعوى اندراج فرض البحث في الأقلّ والأكثر؟!
بل الأمر في أمثال هذه الموارد ينتهي إلى العلم الإجمالي بتعلّق التكليف إمّبخصوص حصّة خاصّة أو بجامع الحصص والطبيعي على الإطلاق بما هو قابلالانطباق على حصّة اُخرى غيرها، ومرجعه إلى العلم الإجمالي إمّا بوجوبهذه الحصّة الخاصّة وإمّا بوجوب حصّة اُخرى غيرها مشمولة لإطلاقالطبيعي، وفي مثله بعد عدم قدر متيقّن في البين يرجع الأمر إلى المتبائنين،فيجب فيه الاحتياط، بإكرام خصوص زيد، لأنّه يوجب القطع بالخروج عنعهدة التكليف المعلوم في البين، بخلاف صورة إكرام غير زيد، فإنّه لا يقطعحينئذٍ بحصول الفراغ ولا يأمن العقوبة على ترك إكرام زيد.
هذا ما بنى عليه المحقّق الخراساني رحمهالله وجوب الاحتياط في المسألة.
نقد كلام صاحب الكفاية رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّ تفسير كلام الفلاسفة بما ذكره في غير محلّه، فإنّهم أرادوأنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بنفس ذاته، ولكن بنعت الكثرة، لالتباين، فإنّ الطبيعي هو نفس الماهيّة، وهي موجودة بتبع الوجود في الخارج،وحيث إنّها لم تكن بذاتها واحدة ولا كثيرة ولا كلّيّة ولا جزئيّة، تكون معالواحد واحدة ومع المتكثّر متكثّرة، ولو لم يكن لها فرد لم توجد أصلاً(1)،فيكون الطبيعي موجوداً مع كلّ فرد بتمام ذاته، ويكون متكثّراً بتكثّر الأفراد.
- (1) لعدم كون الكلّي متحقّقاً في الخارج دائماً، بل لا يكون ممكناً أحياناً، فإنّ المنطقيّين قالوا: المفهوم إنامتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي، وإلاّ فكلّي، امتنعت أفراده أو أمكنت ولم توجد، أو وجد الواحدفقط، مع إمكان الغير، أو امتناعه، أو الكثير، مع التناهي أو عدمه. م ح ـ ى.