(صفحه202)
فزيد إنسان، وعمرو إنسان آخر، وبكر إنسان ثالث، لا أنّهم متباينون منحيث الإنسانيّة، فالحقيقة الإنسانيّة تتكثّر بتكثّر الأفراد، لا أنّها متباينة ـ كمزعم المحقّق الخراساني والعراقي رحمهماالله ـ ولا أنّها واحدة بالوحدة العدديّة ـ كمزعم الرجل الهمداني ـ فالطبيعي في الخارج موجود بنفس ذاته مع كلّ فرد،فمفهوم «الإنسان» مثلاً هو الحيوان الناطق، وهذا المفهوم يتكثّر بعدد أفرادالإنسان، بحيث يكون كلّ فرد تمام الإنسان، لا حصّة منه، ولذا نقول: «زيدوعمرو إنسانان» ولا نقول: «زيد وعمرو حصّتان من الإنسان» فزيد وجودمستقلّ لطبيعة الإنسان، وعمرو أيضاً وجود مستقلّ آخر لها، ولا مغايرةبينهما في إنسانيّتهما، وإنّما المغايرة في تشخّصاتهما الفرديّة.
وهكذا الأمر في الجنس وأنواعه، فإنّ الحيوانيّة التي في الإنسان لا تكونمغايرة للحيوانيّة التي في الفرس، وإنّما المغايرة في فصلهما، وهو الناطقوالصاهل.
وثانياً: أنّه لا يتصوّر جامع بين الأفراد بناءً على ما اختاره المحقّقالخراساني والعراقي رحمهماالله من تحصّص الطبيعي إلى حصص متغايرة متعدّدة بعددالأفراد، فإنّهما إن أرادا بالجامع أمراً لفظيّاً، بمعنى أنّ لفظ الإنسان مثلاً يكونجامعاً بين أفراده، بحيث يطلق على زيد وعمرو وبكر و... بعنوان المشتركاللفظي، فيرد عليه أنّ البحث عن الألفاظ ليس من شأن المنطقي والفلسفي.
وإن أرادا به جامعاً معنويّاً بين الحصص فلا يتصوّر له شيء هاهنا إلاّ نفسالحصص، وهي لا تصلح للجامعيّة، لكونها متغايرةً فرضاً.
على أنّه لو صحّ تصوّر جامع بين الحصص لكان ذلك الجامع أيضاً كلّيّطبيعيّاً، فلابدّ من أن يتحصّص ـ على مذهب المحقّق الخراساني والعراقي ـ أيضإلى حصص بعدد أفراده، وحينئذٍ نحتاج إلى جامع آخر، فيتسلسل.
ج5
وأمّا بناءً على ما استظهرناه من كلام الفلاسفة فلا يصعب تصوّر الجامع،لأنّ الكلّي الطبيعي بناءً عليه عبارة عن نفس الماهيّة، وليس في ذاته وحدة ولكثرة، لكنّه قابل لأن يتكثّر بتكثّر أفراده، فهذا الكلّي الطبيعي ـ بلحاظ هذالتكثّر ـ يكون جامعاً بين أفراده، ولا محذور فيه، لما عرفت من عدم تغايرالأفراد بلحاظ هذا الجامع، وإنّما التغاير فيها بحسب التشخّصات الفرديّة.
وعلى هذا لا منع من جريان البراءة العقليّة إذا شككنا في أنّ المأمور به هلهو الطبيعي أو فرده، كما إذا كان مردّداً بين إكرام إنسان وبين إكرام زيد، لأنّنعلم تفصيلاً بوجوب إكرام حيوان ناطق ونشكّ بدواً في أنّ العوارضالمشخّصة لزيد هل تكون ملحوظة في المأمور به أم لا، والعقل يحكم بأنّها لوكانت ملحوظة لكان على المولى بيانها، فحيث لم يبيّنها لا يجوز له العقاب علىعدم رعايتها، لأنّه عقاب بلا بيان، وهو قبيح، وهكذا إذا شككنا في أنّالمأمور به هل هو الجنس أو النوع، كما إذا كان مردّداً بين إطعام حيوان وبينإطعام إنسان، وهكذا إذا شككنا في أنّ المأمور به هل هو المطلق أو المشروط،كما إذا كان مردّداً بين مطلق الصلاة وبين الصلاة المقيّدة بالطهارة، بل جريانالبراءة هاهنا أوضح، لما سيجيء من أنّ العرف يرى المغايرة بين الطبيعيوفرده، وكذلك بين الجنس ونوعه، فلتوهّم رجوعهما إلى المتباينين مجال،ولكنّ المطلق والمشروط ليسا متغايرين حتّى بنظر العرف، فإنّه يرى أنّالصلاة المقيّدة بالطهارة هي الصلاة بضميمة شيء آخر، لا أنّهما متباينتان، فلمجال لتوهّم رجوع دوران الأمر بين المطلق والمشروط إلى المتباينين.
والحاصل: أنّ البراءة العقليّة تجري في موارد الدوران بين المطلقوالمشروط، وبين الجنس والنوع، وبين الطبيعي والفرد.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
(صفحه204)
لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله قال بعدم جريان البراءة في موارد الدوران بينالجنس ونوعه، لأنّ الترديد بينهما وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقلّوالأكثر، إلاّ أنّه بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين، لأنّ الإنسان بمله من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً، فلو علم إجمالاً بوجوبإطعام الإنسان أو الحيوان، فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان،لأنّ أصالة البراءة في كلّ منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الآخر، فيبقى العلمالإجمالي على حاله، ولابدّ من العلم بالخروج من عهدة التكليف، ولا يحصلذلك إلاّ بإطعام خصوص الإنسان، لأنّه جمع بين الأمرين، فإنّ إطعام الإنسانيستلزم إطعام الحيوان أيضاً(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويرد عليه أوّلاً: أنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في الأدلّة اللفظيّة، ونحنلا نبحث فعلاً عن البراءة الشرعيّة التي تستفاد من مثل حديث الرفع، بلالبحث في البراءة العقليّة، فرأي العرف لا يكون متّبعاً، بل المتّبع هو نظر العقل،والعقل لا يرى بين الجنس ونوعه تبايناً وتغايراً.
وثانياً: أنّ الإنسان والحيوان وإن كانا بنظر العرف من قبيل المتباينين، لكنليس جميع موارد الترديد بين النوع والجنس كذلك، كما إذا دار الأمر بينالحيوان والفرس، فإنّهما ليسا بنظرهم من قبيل المتباينين.
وبالجملة: إشكاله يرجع إلى المناقشة في المثال.
وثالثاً: أنّ الدوران بين الإنسان والحيوان لو كانا من قبيل المتباينين، فلابدّمن الجمع بين إطعامهما في مقام الامتثال، ولا معنى لما ذكره من أنّ طريق
- (1) فوائد الاُصول 4: 208.
ج5
الاحتياط إنّما هو بإطعام الإنسان، لأنّ إطعامه يستلزم إطعام الحيوان، فإنّمساوقة إتيان النوع لإتيان الجنس مبنيّ على ما اخترناه من عدم التباينبينهما، لا على ما اختاره المحقّق النائيني رحمهالله من كونهما متباينين.
وبعبارة اُخرى: إتيان النوع مساوق لإتيان الجنس بالتحليل العقلي الذييكون متّبعاً وملاكاً عندنا، لا بنظر العرف الذي يكون ملاكاً عند هذا المحقّقالكبير.
وبالجملة: الجمع بين القول برجوع الدوران بين الجنس والنوع إلى الدورانبين المتباينين، وبين الالتزام بكفاية إتيان النوع في تحقّق الاحتياط ـ بدعوىأنّ الإتيان بالنوع يستلزم الإتيان بالجنس ـ من الغرائب.
ثمّ إنّ الشرط قد يكون مبايناً للمشروط في الوجود، وقد يكون متّحداً معهـ كما أشرنا إليه في أوائل هذا المبحث(1) ـ وأيضاً قد يكون اختياريّاً، كالإيمانبالنسبة إلى الرقبة والطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وقد يتحقّق قهريّاً، كالسيادة،ولبعض الاُصوليّين تفصيلات بلحاظ مثل هذين التقسيمين، لكن لا نطيلبذكرها.
هذا تمام الكلام في البراءة العقليّة، وقد ثبت جريانها في موارد الدوران بينالمطلق والمشروط، وبين الجنس والنوع، وبين الطبيعي والفرد كلّها.
القول في جريان البراءة الشرعيّة في المسألة
ولا إشكال في جريان البراءة الشرعيّة أيضاً في جميع المواضع الثلاثة بناءًعلى القول بالانحلال ـ كما هو المختار ـ لأنّ الزائد على ما علم تفصيلاً مشكوك،فيرفعه حديث الرفع.
(صفحه206)
وأمّا بناءً على عدم الانحلال فالحقّ عدم جريان البراءة الشرعيّة، لأنّجريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي معارض بجريانه في الطرفالآخر.
كلام صاحب الكفاية في المقام
لكنّ المحقّق الخراساني رحمهالله ـ مع قوله بعدم جريان البراءة العقليّة مطلقاً،بدعوى عدم انحلال العلم الإجمالي ـ فصّل في البراءة الشرعيّة، فقال بجريانهفيما إذا كان الدوران بين المطلق والمشروط، وبعدم جريانها فيما إذا كان بينالجنس والنوع، بدعوى أنّ مثل حديث الرفع يدلّ على عدم شرطيّة ما شكّفي شرطيّته في الأوّل ولا يدلّ على عدم اعتبار الخصوصيّة النوعيّة في الثاني،والفرق بينهما أنّ الشرطيّة أمرٌ زائد على المشروط ولا تكون منتزعة عنه، فإذشككنا فيها ترفع بحديث الرفع، بخلاف خصوصيّة الخاصّ، فإنّها لا تكونأمراً زائداً عليه، بل هي منتزعة عنه، فلا يكون الخاصّ معلوماً والخصوصيّةمشكوكة كي تجري البراءة الشرعيّة فيها، بل يكون الدوران بين الخاصّوغيره من قبيل الدوران بين المتباينين(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله في المقام.
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّه على القول بعدم الانحلال وكون المطلق والمشروط منقبيل المتباينين لا مجال لإجراء حديث الرفع في المقام، لابتلائه بالمعارض كمقلنا في الشكّ في الجزئيّة، بل الأمر هاهنا أوضح بناءً على ما ذكره المحقّق