(صفحه206)
وأمّا بناءً على عدم الانحلال فالحقّ عدم جريان البراءة الشرعيّة، لأنّجريان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي معارض بجريانه في الطرفالآخر.
كلام صاحب الكفاية في المقام
لكنّ المحقّق الخراساني رحمهالله ـ مع قوله بعدم جريان البراءة العقليّة مطلقاً،بدعوى عدم انحلال العلم الإجمالي ـ فصّل في البراءة الشرعيّة، فقال بجريانهفيما إذا كان الدوران بين المطلق والمشروط، وبعدم جريانها فيما إذا كان بينالجنس والنوع، بدعوى أنّ مثل حديث الرفع يدلّ على عدم شرطيّة ما شكّفي شرطيّته في الأوّل ولا يدلّ على عدم اعتبار الخصوصيّة النوعيّة في الثاني،والفرق بينهما أنّ الشرطيّة أمرٌ زائد على المشروط ولا تكون منتزعة عنه، فإذشككنا فيها ترفع بحديث الرفع، بخلاف خصوصيّة الخاصّ، فإنّها لا تكونأمراً زائداً عليه، بل هي منتزعة عنه، فلا يكون الخاصّ معلوماً والخصوصيّةمشكوكة كي تجري البراءة الشرعيّة فيها، بل يكون الدوران بين الخاصّوغيره من قبيل الدوران بين المتباينين(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله في المقام.
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّه على القول بعدم الانحلال وكون المطلق والمشروط منقبيل المتباينين لا مجال لإجراء حديث الرفع في المقام، لابتلائه بالمعارض كمقلنا في الشكّ في الجزئيّة، بل الأمر هاهنا أوضح بناءً على ما ذكره المحقّق
ج5
الخراساني رحمهالله من أنّ الانحلال المتوهّم هناك لا يكاد يتوهّم هاهنا، فعدمجريان البراءة الشرعيّة لابدّ من أن يكون أوضح هاهنا.
وثانياً: أنّا لو سلّمنا جريان البراءة الشرعيّة في موارد الشكّ في الشرطيّةفالتفصيل غير صحيح، لأنّا نعلم في الدوران بين الجنس والنوع أيضاً أنّإطعام الحيوان مثلاً مأمور به، ولكن نشكّ في اعتبار خصوصيّة الإنسانيّة فيه،فيشمله حديث الرفع، وكون الشرطيّة أمراً زائداً على المشروط غير منتزعةعنه دون خصوصيّة الخاصّ لا يكون فارقاً، خصوصاً على ما ذهب إليهصاحب الكفاية من أنّ الشرطيّة ليست مجعولةً من قبل الشارع، فلا فرق بينهوبين الخصوصيّة النوعيّة في عدم مجعوليّتهما، فلا وجه للقول بجريان البراءة فيموارد الشكّ في الشرطيّة دون موارد الشكّ في الخصوصيّة النوعيّة.
والحاصل: أنّا لو التزمنا بانحلال العلم الإجمالي ـ كما هو الحقّ ـ تجريالبراءة الشرعيّة أيضاً، ولو التزمنا بعدم الانحلال فلا تجري، ولا فرق في ذلكبين الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو دخل الخصوصيّة النوعيّة أو الشخصيّة.
(صفحه208)
في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات
البحث في الأسباب والمحصّلات
تحرير محلّ النزاع
قبل الشروع في البحث لابدّ من بيان حدود البحث وثغوره، فنقول:
إذا تعلّق الأمر بشيء معلوم عندنا بدون أن يكون فيه إجمال وإبهام ولكنّهكان مسبّباً عن شيء آخر، فإن كان السبب مردّداً بين الأقلّ والأكثر، إمّلأجل الشكّ في جزئيّة شيء للسبب أو في شرطيّته أو غير ذلك فهذا ما يعبّرعنه بدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات.
والسبب تارةً: يكون عقليّاً، كما إذا اُمرنا بقتل شخص مفسد في الأرض،وعلمنا أنّ سبب قتله هو السلاح، ورمينا إليه سهماً، لكن شككنا في تحقّقالقتل، لظلمة أو غيرها، فلم نعلم أنّ رمي سهم آخر لازم علينا أم لا؟فالسبب العقلي يكون مردّداً بين الأقلّ والأكثر.
واُخرى: عاديّاً، كما إذا نذرنا تنظيف المسجد، لكن شككنا في أنّه يتحصّلبمجرّد كنسه أو بضميمة رشّ الماء إليه، فالسبب العادي يكون مردّداً بين الأقلّوالأكثر.
وثالثةً: شرعيّاً، كما إذا اُمِرنا أن نملّك زيداً كتاباً وعلمنا أنّ سبب تمليكه هوالبيع، لكن شككنا في أنّ العربيّة معتبرة في صيغة البيع أم لا؟ فالسبب
ج5
الشرعي يكون مردّداً بين الأقلّ والأكثر.
جميع هذه الأقسام تكون محلاًّ للنزاع في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فيالأسباب والمحصّلات.
إذا عرفت هذا فلابدّ من البحث في مقامين:
المقام الأوّل: في البراءة العقليّة
نظريّة المحقّق العراقي رحمهالله في المسألة
ذهب المحقّق العراقي رحمهالله إلى أنّ التحقيق هو التفصيل بين أن يكون العنوانالبسيط الذي هو المأمور به ذا مراتب متفاوتة متدرّج الحصول والتحقّق منقبل أجزاء علّته ومحقّقه بأن يكون كلّ جزء من أجزاء سببه مؤثّراً في تحقّقمرتبة منه إلى أن يتمّ المركّب، فيتحقّق تلك المرتبة الخاصّة التي هي منشالآثار، نظير مرتبة خاصّة من النور الحاصلة من عدّة شموع، والظاهر أنّه منهذا القبيل الطهارة، كما يكشف عنه ظاهر بعض النصوص الواردة في بابغسل الجنابة من نحو قوله عليهالسلام : «تحت كلّ شعرة جنابة، فبلّوا الشعر وانقوالبشرة»(1) وقوله عليهالسلام في الصحيح: «فما جرى عليه الماء فقد طهر»(2)، وقوله عليهالسلام في الصحيح الآخر: «وكلّ شيء أمسسته الماء فقد أنقيته»(3).
ويعضده استدلال جمع منهم على ناقضيّة الحدث الأصغر الواقع في أثناءالغسل بأنّ الأصغر ناقض للطهارة بكمالها، فلأبعاضها أولى.
وبين ما لا يكون كذلك بأن كان العنوان البسيط غير مختلف المراتب دفعي
- (1) ورد مضمونه في البحار 78: 51، كتاب الطهارة، الباب 40 باب وجوب غسل الجنابة وعلله، الحديث 23.
- (2) وسائل الشيعة 2: 229، كتاب الطهارة، الباب 26 من أبواب الجنابة، الحديث 1.
- (3) وسائل الشيعة 2: 230، كتاب الطهارة، الباب 26 من أبواب الجنابة، الحديث 5.
(صفحه210)
الحصول والتحقّق عند تماميّة محقّقه.
فعلى الأوّل لا قصور في جريان أدلّة البراءة عند الشكّ في المحقّق ودورانهبين الأقلّ والأكثر، فإنّ مرجع الشكّ في دخل الزائد في المحقّق حينئذٍ بعدفرض ازدياد سعة الأمر البسيط بازدياد أجزاء محقّقه إلى الشكّ في سعة ذلكالأمر البسيط وضيقه، فينتهي الأمر في مثله إلى الأقلّ والأكثر في نفس الأمرالبسيط، فتجري فيه البراءة من غير فرق بين كون المحصّل له من الأسبابالعقليّة والعاديّة أو الأسباب الشرعيّة، كباب الطهارة الحدثيّة، بل الخبثيّةأيضاً.
وأمّا على الثاني ـ وهو فرض كون البسيط دفعي الحصول والتحقّق عندتحقّق الجزء الأخير من علّته ـ فلا محيص عند الشكّ في دخل شيء في محقّقهمن الاحتياط، لأنّ التكليف قد تنجّز بمفهوم مبيّن معلوم بالتفصيل بلا إبهامفيه، والشكّ إنّما كان في تحقّقه وحصول الفراغ منه بدونه، والعقل يستقلّ فيمثله بوجوب الاحتياط، تحصيلاً للجزم بالفراغ عمّا ثبت الاشتغال به يقيناً(1)،إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
وفيه: أنّ هذا التفصيل خارج عن محلّ النزاع، لأنّ المكلّف إن لم يعلم أيّمرتبة من المراتب التدريجيّة تكون مأموراً بها فالدوران بين الأقلّ والأكثريكون في نفس المأمور به لا في سببه ومحصّله، لما تقدّم من أنّ ملاك الشكّ فيالمحصّل أن يكون المأمور به معلوماً من دون الإجمال والإبهام وكان الشكّ فيسببه، وهاهنا يكون الشكّ في نفس المأمور به، فهو داخل في المباحث السابقة.
- (1) نهاية الأفكار 3: 401.