ج5
وإن علم أيّ مرتبة منها تكون مأموراً بها فهذه المرتبة بالخصوص تكوندفعيّة الحصول، فلا يصحّ التفصيل.
الاحتمالات المتصوّرة في المسألة
ثمّ إنّ في الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات احتمالاتأربع:
أ ـ جريان البراءة مطلقاً.
ب ـ عدم جريانها كذلك.
ج ـ التفصيل بين القول بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة وبينالقول باقتضائه له، فلا تجري على الأوّل وتجري على الثاني.
د ـ التفصيل بين كون السبب من الأسباب العقليّة أو العاديّة، فلا تجري،وبين كونه من الأسباب الشرعيّة، فتجري، لأنّ بيان السبب الشرعي علىالشارع، فإذا كان مجهولاً وتركه المكلّف لا يجوز عقوبته، لأنّها عقاب بلا بيان،فيحكم العقل بقبحه.
بيان الحقّ في المسألة
والحقّ عدم جريان البراءة مطلقاً، لأنّ الشكّ في المحصّل مجرى الاشتغال،فإنّ الملاك لجريان الاشتغال أن يكون الأمر معلوماً أوّلاً، وأن يكون المأموربه أيضاً معلوماً ـ إمّا بالعلم التفصيلي أو الإجمالي الذي لا ينحلّ إلى العلمالتفصيلي والشكّ البدوي ـ ثانياً، وأن نشكّ في تحقّق المأمور به ثالثاً.
مثلاً إذا علمنا بصدور أمر من قبل الشارع، وعلمنا أيضاً تعلّقه بالصلاة،وشككنا في إتيانها قبل خروج وقتها(1) فالاشتغال اليقيني يستدعي البراءة
- (1) إنّما قلنا: «قبل خروج وقتها» لأجل الدليل الدالّ على عدم لزوم الإتيان بالصلاة إذا شكّ في إتيانها بعدوقتها، ولولا ذلك الدليل لقلنا بالاشتغال ولزوم الإتيان بها فيما إذا شكّ فيه بعد الوقت أيضاً، كما نقول بهفي الصوم. منه مدّ ظلّه.
(صفحه212)
اليقينيّة، فلابدّ من إتيانها.
وهذه الاُمور الثلاثة التي تكون ملاكاً لجريان الاشتغال متحقّقة فيما نحنفيه، لأنّا نعلم بصدور أمر من قبل المولى فرضاً، ونعلم أيضاً تفصيلاً بأنّالمأمور به قتل زيد، ونشكّ في تحقّقه بضربة واحدة، فالاشتغال اليقيني يقتضيالبراءة اليقينيّة بحكم العقل، فلابدّ من ضربة ثانية حتّى يحصل اليقين بتحقّقالمأمور به، ولا فرق بينه وبين ما إذا علمنا بأنّ القتل يتحقّق بضربة واحدةلكن شككنا في تحقّق الضربة الاُولى، ففي كليهما نشكّ في تحقّق المأمور به،فكلاهما مجرى الاشتغال، ولا يصحّ الفرق بينهما.
وبالجملة: وجوب الاحتياط واضح على هذا التقريب كمال الوضوح.
دليل القول بجريان البراءة في المسألة
لكن استشكل عليه بأنّ البراءة وإن لم تكن جارية بهذا التقريب، إلاّ أنّهتجري بطريق آخر يتّضح بذكر أمرين:
أ ـ أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، أي الترك الذي هونقيض المأمور به.
ب ـ أنّ للمركّب وجوداً واحداً يتحقّق بتحقّق جميع أجزائه، ولكن لهأعدام كثيرة، لأنّه ينعدم بانعدام كلّ جزء من أجزائه، وأيضاً ينعدم بانعداماثنين منها أو ثلاثة وهكذا.
إذا عرفت هذين الأمرين فنقول: إنّ ترك المأمور به الناشئ من قبلترك الأقلّ(1) ممّا يعلم تفصيلاً حرمته واستحقاق العقوبة عليه، للعلم بإفضاء
- (1) كترك القتل الناشئ من ترك الضربة الاُولى في المثال الذي ذكرناه. منه مدّ ظلّه.
ج5
ترك الأقلّ إلى ترك المأمور به، وأمّا تركه الناشئ من قبل ترك المشكوكجزئيّته للسبب(1) فلا يعلم حرمته، لعدم العلم بإفضاء ترك المشكوك إلى تركالمأمور به.
وبعبارة اُخرى: يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر في ناحية المنهيّ عنه، لأنّنعلم أنّ ترك القتل الناشئ من ترك الضربة الاُولى منهيّ عنه، ونشكّ في أنّترك القتل الناشئ من ترك الضربة الثانية هل هو أيضاً منهيّ عنه أم لا؟ لعدمالعلم بإفضاء تركها إلى تركه.
والحاصل: أنّ الأقلّ ـ وهو ترك القتل المستند إلى ترك الضربة الاُولى يكون تعلّق النهي به معلوماً تفصيلاً، والزائد ـ وهو ترك القتل المستند إلى تركالضربة الثانية ـ يكون تعلّق النهي به مشكوكاً بالشكّ البدوي، فهو مجرىالبراءة.
نقد القول بجريان البراءة في المقام
ويرد عليه أوّلاً: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، حتّى الضدّالعامّ الذي هو نقيضه وتركه، وإلاّ لزم استحقاق عقابين على مخالفة الأمر، ولميقل به أحد كما حقّقناه في محلّه.
وثانياً: أنّا لا نسلّم أن يكون للمركّب أعدام متعدّدة، بل كما أنّ وجودهيكون واحداً عدمه أيضاً واحد، لكنّ الأسباب التي يتحصّل منها العدم تكونمتعدّدة كما حقّقناه في الجواب عن الإشكال الثالث في مسألة الشكّ فيالجزئيّة(2).
- (1) كترك القتل الناشئ من ترك الضربة الثانية في المثال. منه مدّ ظلّه.
(صفحه214)
وبالجملة: ما ذكر من الأمرين وابتني عليهما جريان البراءة في طرف التركمردودان.
على أنّ النهي عن الترك الذي هو لازم للأمر بالشيء بالملازمة العقليّة ليسنهياً مستقلاًّ، بل هو تابع للأمر، فيكون مثله في السعة والضيق، فلا يمكن أنتجري البراءة فيه دون الأمر، لأنّه يكون موجوداً ما دام الأمر موجوداً،ويسقط بسقوط الأمر، وحيث إنّ البراءة لا تجري في ناحية الأمر فلا تكادتجري في النهي التابع له أيضاً.
أضف إلى ذلك: أنّ جريان البراءة في النهي عن الترك، واقتضائه عدمحرمة ترك القتل الناشئ من ترك الضربة الثانية لا يجدي الخصم، لأنّ تكليفالمولى إنّما هو وجوب القتل، ونحن نشكّ في امتثاله بتحقّق الضربة الاُولى،فالاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، فلابدّ من إتيان الضربة الثانيةلإحراز الفراغ.
والقول بجريان البراءة في ناحية الترك ـ بدعوى انحلال العلم الإجمالي إلىالعلم التفصيلي بثبوت النهي عن ترك القتل الناشئ من ترك الضربة الاُولىوالشكّ البدوي في ثبوت النهي عن ترك القتل الناشئ من ترك الضربة الثانية لا يزيد على ما ذهب إليه المحقّقون من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهيعن الترك، فهل يمكن القول بوجوب الاحتياط بناءً على عدم تحقّق النهي عنالترك أصلاً لأجل إنكار الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه، وبجريانالبراءة بناءً على زواله لأجل انحلال العلم الإجمالي؟!
وبعبارة اُخرى: لا يمكن إجراء البراءة بالنسبة إلى وجوب الفعل، وليجدي إجرائها بالنسبة إلى حرمة الترك باستناد انحلال العلم الإجمالي، كما ل
ج5
يجدي عدم حرمة الترك باستناد إنكار الملازمة.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ البراءة لا تجري في الأسباب والمحصّلاتإجمالاً في مقابل القائل بالجريان مطلقاً.
لكن قد عرفت أنّ هاهنا تفصيلين ينبغي البحث حولهما أيضاً:
التفصيل بين كون العلم الإجمالي علّة تامّة وبين كونه مقتضياً
الأوّل: جريان الاشتغال لو قلنا بكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوبالاحتياط، والبراءة لو قلنا بكونه مقتضياً له.
لكنّ التحقيق أنّ التقريب الذي ذكرناه لوجوب الاحتياط لا فرق فيه بينكون العلم الإجمالي علّة تامّة له وبين كونه مقتضياً، لأنّ المقتضي يكون مؤثّرما لم يمنع من تأثيره مانع، ولا يوجد ما يصلح للمانعيّة في المقام.
التفصيل بين كون السبب عاديّاً أو عقليّاً وبين كونه شرعيّاً
الثاني: ما نقله المحقّق النائيني «أعلى اللّه مقامه» وأجاب عنه(1)، وهو أنّالسبب إن كان عقليّاً أو عاديّاً يجب الاحتياط، وإن كان شرعيّاً تجري البراءة،لأنّ بيان الأسباب الشرعيّة كمسبّباتها وظيفة الشارع، فلو ترك المكلّف مشكّ في دخله في تأثير السبب فلم يتحقّق المأمور به لا يجوز للشارع عقابه،لأنّه عقاب بلا بيان، والعقل يحكم بقبحه.
والتحقيق أنّ هذا التفصيل أيضاً غير صحيح، ولا تجري البراءة وإن كانالسبب شرعيّاً.
والجواب عمّا ذكر في كلام هذا المفصّل يتوقّف على توضيح الأسباب
- (1) راجع فوائد الاُصول 4: 144 وما بعدها.