(صفحه286)
لسان دليل اعتبار القيد هو حكومته على دليل المأمور به، مثل أن يكون دليلوجوب الصلاة قوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ»(1) ودليل جزئيّة الفاتحة ما رويعن النبيّ صلىاللهعليهوآله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(2) فإنّه نظير جملة «لا شكّ لكثيرالشكّ»(3) الحاكمة على أدلّة أحكام الشكوك، وقد يكون لسان دليل المأمور بههو حكومته على دليل اعتبار القيد، كما لو كان دليل وجوب الصلاة: «لا تتركالصلاة بحال» ودليل جزئيّة الفاتحة: «اقرأ فاتحة الكتاب في الصلاة» وقد ليكون في البين حكومة أصلاً.
فهذه الصورة الأخيرة داخلة في محلّ النزاع، لانتفاء الحكومة وتحقّقالتعارض، دون الصورتين الاُوليين، لأنّ إطلاق الدليل الحاكم ـ سواء كاندليل اعتبار القيد أو دليل المأمور به ـ مقدَّم على إطلاق الدليل المحكوم فيهاتين الصورتين، فيرفع التعارض من بين الدليلين.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله قال بحكومة إطلاق دليل القيد على إطلاق دليلالمأمور به في جميع الموارد، فإنّه قال:
فإن كان لدليل القيد إطلاق لصورة التمكّن منه وعدمه، فلا إشكال فياقتضاء الإطلاق ثبوت القيديّة حتّى في صورة تعذّر القيد، ويلزمه سقوطالأمر بالمقيّد عند تعذّره، فلا يجب فعل المقيّد خالياً عن القيد، إلاّ أن يثبتوجوبه بأمر آخر، من أصل أو قاعدة، وهذا من غير فرق بين أن يكون للأمر
- (2) مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
- (3) هذه جملة مستفادة من الأخبار الواردة في وسائل الشيعة 8 : 227 ـ 229، كتاب الصلاة، الباب 16 منأبواب الخلل الواقع في الصلاة. م ح ـ ى.
ج5
المتعلّق بالمقيّد إطلاق أو لم يكن، فإنّ إطلاق دليل القيد حاكم على إطلاقدليل المقيّد، كحكومة إطلاق القرينة على ذيها(1)، إنتهى موضع الحاجة منكلامه.
ويرد عليه أوّلاً: أنّ تقديم إطلاق القرينة على إطلاق ذيها ليس من بابالحكومة، بل من جهة تقديم الأظهر على الظاهر، فإنّ ظهور «يرمي» فيالرجل الشجاع أكثر من ظهور «أسد» في الحيوان المفترس إذا قلنا: «رأيتأسداً يرمي».
وثانياً: أنّك قد عرفت أنّ ضابطة الحكومة قد تقتضي حكومة إطلاق دليلالمقيّد على إطلاق دليل القيد، كما إذا كان دليل المقيّد مثل «لا تترك الصلاةبحال» ودليل القيد مثل «اقرأ فاتحة الكتاب في الصلاة»، وقد لا يكون في البينحكومة أصلاً، فكيف يمكن الالتزام بحكومة إطلاق دليل القيد على إطلاقدليل المقيّد في جميع الموارد؟!
ما أفاده الوحيد البهبهاني رحمهالله في المسألة
وللمحقّق الوحيد البهبهاني رحمهالله هاهنا تفصيل، وهو أنّ القيد إن كان مستفادمن مثل «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» و«لا صلاة إلاّ بطهور»(2) سقط الأمربالمقيّد عند تعذّر القيد، وإن كان مستفاداً من مثل «اسجد في الصلاة» و«لتلبس الحرير في الصلاة» لم يسقط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد(3).
قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»: كلام الوحيد البهبهاني موافق لمذكرناه(4).
- (1) فوائد الاُصول 4: 250.
- (2) وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 1.
- (3) أنوار الهداية 2: 374 نقلاً عن الوحيد البهبهاني رحمهالله .
(صفحه288)
نقد كلام الوحيد البهبهاني من قبل المحقّق النائيني رحمهماالله
ووجّه المحقّق النائيني كلام الوحيد البهبهاني رحمهماالله بوجه آخر، ثمّ استشكلعليه بأمرين، فإنّه قال:
إنّ مقتضى إطلاق دليل القيد سقوط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد مطلقاً،من غير فرق بين القيود المستفادة من مثل قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»و«لا صلاة إلاّ بطهور» وبين القيود المستفادة من مثل قوله: «اسجد في الصلاة»أو «لا تلبس الحرير فيها» وأمثال ذلك من الأوامر والنواهي الغيريّة.
وقد نسب التفصيل بين ذلك إلى الوحيد البهبهاني قدسسره فذهب إلى سقوطالأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد في الأوّل دون الثاني.
ويمكن توجيهه بأنّ الأمر الغيري المتعلّق بالجزء أو الشرط مقصور بصورةالتمكّن من ذلك الجزء أو الشرط، لاشتراط كلّ خطاب بالقدرة على متعلّقه،فلابدّ من سقوط الأمر بالقيد عند عدم التمكّن منه ويبقى الأمر بالباقي الفاقدللقيد على حاله، كما إذا لم يرد أمر بالقيد من أوّل الأمر.
وهذا بخلاف القيديّة المستفادة من مثل قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»ونحوه، فإنّه لم يتعلّق أمر بالفاتحة والطهور حتّى يشترط فيه القدرة عليهما، بلإنّما اُفيد قيديّة الطهور والفاتحة بلسان الوضع لا التكليف، فإنّ معنى قوله: «لصلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» هو أنّه لا تصحّ الصلاة إلاّ بالفاتحة، ولازم ذلكسقوط الأمر بالصلاة عند تعذّر الفاتحة، لعدم تمكّن المكلّف من إيجاد الصلاةالصحيحة عند عدم تمكّنه من الفاتحة أو الطهور، هذا غاية ما يمكن أن يوجّهبه كلام الوحيد رحمهالله من التفصيل بين القيود.
- (1) وهو ما اختاره الاُستاذ المحاضر العلاّمة آية اللّه الفاضل«مدّ ظلّه». م ح ـ ى.
ج5
ولا يخفى ما فيه، فإنّ القدرة إنّما تعتبر في متعلّقات التكاليف النفسيّة لكونهطلباً مولويّاً وبعثاً فعليّاً نحو المتعلّق، والعقل يستقلّ بقبح تكليف العاجز، بللو فرض عدم استقلال العقل بذلك وقلنا بمقالة الأشاعرة: من جواز التكليفبما لا يطاق، كان نفس الخطاب يقتضي القدرة على متعلّقه في التكاليفالنفسيّة، لأنّ التكليف النفسي يكون تحريكاً وبعثاً لإرادة المكلّف نحو أحدطرفي المقدور: من الفعل أو الترك، فكلّ خطاب يتضمّن البعث والتحريكيتضمّن القدرة لا محالة.
وهذا بخلاف الخطابات الغيريّة المتعلّقة بالأجزاء والشرائط، فإنّه يمكن أنيقال: إنّ مفادها ليس إلاّ الإرشاد وبيان دخل متعلّق الخطاب الغيري فيمتعلّق الخطاب النفسي ـ كما هو الشأن في الخطابات الغيريّة في باب الوضعوالأسباب والمسبّبات ـ حيث إنّ مفادها ليس إلاّ الإرشاد إلى دخل المتعلّق فيحصول المسبّب، ففي الحقيقة الخطابات الغيريّة في باب التكاليف وفي بابالوضع تكون بمنزلة الأخبار، من دون أن يكون فيها بعث وتحريك للإرادةحتّى تقتضي القدرة على المتعلّق.
ثمّ إنّه لو سلّم الفرق بين الخطابات الغيريّة في باب متعلّقات التكاليف وفيباب الوضعيّات وأنّها في التكاليف تتضمّن البعث والتحريك، فلا إشكال فيأنّه ليس في آحاد الخطابات الغيريّة ملاك البعث المولوي، وإلاّ خرجت عنكونها غيريّة، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع، فالقدرة إنّما تعتبر أيضفي المجموع لا في الآحاد، وتعذّر البعض يوجب سلب القدرة عن المجموع،ولازم ذلك سقوط الأمر من المجموع، لا من خصوص ذلك البعض، لأنّ تعذّرالبعض يقتضي تعذّر استيفاء الملاك القائم بالمجموع، فلا فرق بين القيديّةالمستفادة من مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» والقيديّة المستفادة
(صفحه290)
من الأمر أو النهي الغيري(1)، إنتهى كلامه.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني حول كلام الوحيد البهبهاني رحمهماالله
وما ذكره من توجيه كلام الوحيد ضعيف، والحقّ ما ذكره سيّدنا الاُستاذالأعظم الإمام «حفظه اللّه» من كون كلام الوحيد موافقاً لما اخترناه.
ولو سلّم ما ذكره من التوجيه فلا يرد عليه ما أورده من الإشكالين،لإمكان الجواب عنهما.
أمّا الإشكال الأوّل: فلأنّه لا فرق بين الأوامر النفسيّة والغيريّة في اقتضائهالقدرة على متعلّقاتها، فإنّ الأمر وضع للبعث والتحريك، واستعمل في هذالمعنى، سواء كان نفسيّاً أو غيريّاً، مولويّاً أو إرشاديّاً، فالأمر وإن كان غيريّإرشاديّاً يقتضي القدرة على متعلّقه، ألا ترى أنّ الطبيب لو أمر المريضباستعمال دواء مع علمه بعدم قدرة المريض على استعماله كان قبيحاً عند العقلوالعقلاء، مع أنّ أمر الطبيب إرشادي بلا ريب؟
ومن هنا يظهر الجواب عن الإشكال الثاني، فإنّ آحاد الأوامر الغيريّة إذوضعت للبعث والتحريك واستعملت فيه فلابدّ من القدرة على متعلّقاتها، لأنّكلّ أمر يقتضي القدرة على متعلّقه.
فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ محلّ النزاع موضعان:
أحدهما: أن يكون دليل القيد والمقيّد فاقدين للإطلاق.
ثانيهما: أن يكون لكليهما إطلاق من دون أن يكون أحد الإطلاقين حاكمعلى الآخر.في حكم العقل عند الاضطرار إلى ترك أحد القيود
بيان الحقّ في المسألة
- (1) فوائد الاُصول 4: 251.