وكذلك الأمر في الشرعيّات، فإنّ من احتمل وجوب شيء شرعاً لا يجوزله تركه باستناد قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» من دون الرجوع إلى مثل كتابوسائل الشيعة ومطالبة حكمه الشرعي الواقعي، فإنّه لو تركه من دون الفحصوكان في الواقع واجباً، لاستحقّ العقوبة عند العقل.
والحاصل: أنّ البعث المحتمل وإن لم يكن صالحاً للباعثيّة إلاّ أنّه صالحللمنجّزيّة، فلا يجوز التمسّك بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبل الفحص، لأنّالمراد بـ «البيان» وإن كان هو البيان الواصل، إلاّ أنّ الوصول ـ في التكاليفالمتوجّهة إلى العموم ـ يتحقّق بمثل تدوينها في الجرائد الرسميّة إذا كانت منقبيل القوانين العقلائيّة، وبكتابتها في الكتب الأصليّة والمجاميع الروائيّة إذكانت من قبيل الأحكام الشرعيّة، فلابدّ قبل إجراء البراءة من الفحص فيمظانّ وجود الدليل على الأحكام الواقعيّة.
فإذا احتمل العبد حرمة شرب التتن وارتكبه من دون أن يفحص عنالدليل كان فعله قبيحاً موجباً لاستحقاق العقوبة، وإن لم يكن في الواقعحراماً. كما أنّ التجرّي(1) يوجب استحقاق عقوبة المتجرّي.
بخلاف ما إذا فحص عن الدليل ولم يجده في مظانّه، لعدم صدق الظلم علىالمولى حينئذٍ، وإن كان في الواقع حراماً.
هذا حاصل هذا الوجه العقلي لإثبات وجوب الفحص في المقام.
نقد القول بأنّ الاقتحام في الشبهات ظلم على المولى
ولا يخفى أنّه لا حاجة إلى التمسّك بهذا الوجه بناءً على ما اخترناه من عدمجريان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبل الفحص.
وعلى هذا فلابدّ من أن يريد هذا القائل أنّ القاعدة تجري في المقام مطلقاً:قبل الفحص وبعده، إلاّ أنّ ارتكاب المشتبه قبل الفحص ممنوع لأجل كونهظلماً على المولى، لا لعدم جريان القاعدة.
وهذا واضح الفساد، لأنّ مخالفة التكليف التي عدّ احتمالها ظلماً علىالمولى لو فرض كونها مخالفةً جائزة فلم يعقل أن يكون احتمالها ظلماً،فلابدّ من أن يُراد كونها مخالفة قبيحة وغير جائزة، مع أنّه لا يمكنالالتزام بقبح المخالفة بعد القول بجريان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبلالفحص وبعده، لأنّ تحقّق المخالفة باستناد حكم العقل بالبراءة لا يعقل أنيكون قبيحاً.
وبعبارة اُخرى: إن كان بين ما قبل الفحص وما بعده فرق في جريانالقاعدة، فلا مجال في المقام للتمسّك بأنّ الاقتحام في الشبهات ظلم على المولى،
- (1) وهو فعل معلوم الحرمة الذي ليس بحرام واقعاً. م ح ـ ى.
ج5
لخروج المقام بنفسه عن تحت القاعدة.
وإن لم يكن بينهما فرق، بل تجري في كلتا الصورتين فلا يعقل أن يكونالعمل الذي يحتمل كونه مخالفاً لتكليف المولى قبيحاً، وحينئذٍ لا يكاد ينطبقعليه عنوان الظلم على المولى.
ومنه انقدح بطلان قياس المقام إلى مسألة التجرّي، فإنّ من قال باستحقاقالعقوبة في تلك المسألة إنّما قال به لأجل تحقّق واقعيّة التجرّي الذي هو طغيانعلى المولى وخروج عن رسوم العبوديّة.
والمتجرّي وإن لم يرتكب مخالفة واقعيّة، إلاّ أنّ استحقاق العقوبةلا يرتبط بارتكاب المخالفة الواقعيّة، بل هو يترتّب ـ عند من قال باستحقاقالمتجرّي العقاب ـ على نفس عنوان التجرّي، وهو كون العبد في مقام الطغيانعلى المولى وخروجه عن رسوم عبوديّته، ولا فرق في ذلك بين العاصيوالمتجرّي.
وأمّا من ارتكب شرب التتن المحتمل الحرمة باستناد قاعدة «قبح العقاببلا بيان» فلا يكون ظالماً على المولى.
وبالجملة: لا يتحقّق في المقام ظلم بوجه من الوجوه، بخلاف باب التجرّي،فإنّه وإن لم يكن مخالفة واقعيّة، إلاّ أنّ عنوان التجرّي محفوظ، ومن قالباستحقاق العقوبة فيه إنّما قال به لنفس هذا العنوان.
فلا يمكن إثبات وجوب الفحص من طريق مسألة الظلم على المولى.
في إثبات وجوب الفحص بالعلم الإجمالي بأحكام شرعيّة
وقد يقرّر حكم العقل بوجوب الفحص بتقرير ثالث، وهو حصول العلمالإجمالي لكلّ أحد ـ قبل الأخذ في استعلام المسائل ـ بوجود واجبات