(صفحه346)
ومحرّمات كثيرة في الشريعة، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة، لأنّ الشكّفي المكلّف به، لا التكليف.
هذا تقرير عقلي آخر لإثبات وجوب الفحص وصار مقبولاً عند المحقّقالنائيني رحمهالله .
وحاصله: أنّ العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة في الشريعة يوجبتنجّزها عقلاً، فلا يجوز مخالفتها، فلابدّ من الفحص، لحصول الاطّلاع عليها.
نقد القول باقتضاء العلم الإجمالي وجوب الفحص
وفيه: أنّ البحث إنّما هو في جريان البراءة العقليّة قبل الفحص، وأصالةالبراءة ـ سواء كانت عقليّة أو نقليّة ـ لا تجري إلاّ في موارد الشكّ في التكليف،ففي موارد العلم به سواء كان تفصيليّاً أو إجماليّاً لا تجري قاعدة «قبح العقاببلا بيان» أصلاً كي نتكلّم في أنّه هل يشترط فيها الفحص أم لا.
فمورد الاستدلال ـ وهو العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة في الشريعة يكون مجرى الاشتغال، ولا يرتبط بالمقام.
وبعبارة اُخرى: محلّ الكلام إنّما هو ما تجري فيه البراءة بلا إشكال مع قطعالنظر عن وجوب الفحص، وهذا غير موارد العلم الإجمالي، فالاستدلالبالعلم الإجمالي لإثبات توقّف البراءة العقليّة على الفحص عن الدليل، لينطبق على المدّعى.
هذا جواب أساسي دقيق عن هذا الدليل.
لكن اُجيب عنه بوجهين آخرين، وقد وقع من الأعلام فيهما النقضوالإبرام.
الأوّل: أنّه أخصّ من المدّعى، فإنّ المدّعى هو وجوب الفحص في كلّ م
ج5
يرجع فيه إلى البراءة العقليّة من موارد الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، وهذالدليل إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من الأحكام بمقدار يحتملانحصار المعلوم بالإجمال فيه، لانحلال العلم الإجمالي بذلك.
جواب المحقّق النائيني رحمهالله عن هذه المناقشة
وأورد عليه المحقّق النائيني رحمهالله بأنّ استعلام مقدار من الأحكام يحتملانحصار المعلوم بالإجمال فيها لا يوجب انحلال العلم الإجمالي، إذ متعلّق العلمتارةً: يتردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر، كما لو علم بأنّ في هذا القطيعمن الغنم موطوءً، وتردّد بين كونه عشرة أو عشرين.
واُخرى: يكون المتعلّق عنواناً ليس بنفسه مردّداً بين الأقلّ والأكثر منأوّل الأمر، بل المعلوم بالإجمال هو العنوان بما له في الواقع من الأفراد، كما لوعلم بموطوئيّة البيض من هذا القطيع، وتردّدت البيض بين كونها عشراً أوعشرين.
ففي الأوّل ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصارالمعلوم بالإجمال فيه، كما لو علم بموطوئيّة هذه العشرة من القطيع.
وفي المثال الثاني لا ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتملانحصار المعلوم بالإجمال فيه، بل لابدّ من الفحص التامّ عن كلّ ما يحتملانطباق العنوان المعلوم بالإجمال عليه، لأنّ العلم الإجمالي يوجب تنجّز متعلّقهبما له من العنوان، ففي المثال العلم الإجمالي تعلّق بعنوان البيض بما له منالأفراد في الواقع، فكلّ ما كان من أفراد البيض واقعاً قد تنجّز التكليف به،ولازم ذلك هو الاجتناب عن كلّ ما يحتمل كونه من أفراد البيض، والعلمالتفصيلي بموطوئيّة عدّة من البيض يحتمل انحصار البيض فيه لا يوجب
(صفحه348)
انحلال العلم الإجمالي.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ المعلوم بالإجمال في المقام هي الأحكامالموجودة فيما بأيدينا من الكتب، فقد تنجّزت جميع الأحكام المثبتة في الكتب،ولازم ذلك هو الفحص التامّ عن جميع الكتب التي بأيدينا، ولا ينحلّ العلمالإجمالي باستعلام جملة من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها.
ألا ترى أنّه ليس للمكلّف الأخذ بالأقلّ لو علم باشتغال ذمّته لزيد بما فيالطومار، وتردّد ما في الطومار بين الأقلّ والأكثر، بل لابدّ له من الفحص التامّفي جميع صفحات الطومار، كما عليه بناء العرف والعقلاء، وما نحن فيه يكونبعينه من هذا القبيل(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق النائيني قدسسره من قبل الإمام الخميني«مدّ ظلّه»
وناقش فيه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بقوله:
وفيه أوّلاً: أنّه لا فرق في الانحلال بين تعلّق العلم بعنوان ويكون العنوان بمله من الأفراد الواقعيّة مردّداً بين الأقلّ والأكثر، وتردّد المتعلّق من أوّل الأمربينهما، فيما إذا كان العنوان ممّا ينحلّ بواسطة انحلال التكليف، فإذا علم بوجوبإكرام العالم بما له من الأفراد، وتردّدت بين الأقلّ والأكثر، فلا محالة ينحلّالعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشكّ البدوي.
نعم، إذا كان نسبة العنوان إلى المعنون نسبة المحصَّل والمحصِّل، وتردّد المحصِّلبين الأقلّ والأكثر لابدّ من الاحتياط(2).
- (1) فوائد الاُصول 4: 279.
- (2) فلو كان عنوان الطهارة شرطاً للصلاة، وقلنا بكون الوضوء محصّلاً لها، ودار أمره بين الأقلّ والأكثر لمتجر البراءة بالنسبة إلى ما شكّ في دخله في الوضوء، وهو ما زاد على الأقلّ، لأنّ الشكّ في وجودالمحصّل يستلزم الشكّ في وجود المحصّل الذي هو المأمور به. م ح ـ ى.
ج5
وأمّا العنوان المنحلّ إلى التكاليف المستقلّة كالبيض من الغنم، فلا إشكال فيكونه كالمردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر.
وثانياً: لو سلّم ذلك فلا إشكال في عدم كون ما نحن فيه من هذا القبيل،لأنّ معنى تعلّق العلم بعنوان وتنجّزه به أن يكون العنوان بذاته متعلّق الحكم،وأمّا تعلّق العلم بعنوان غير ذي حكم فلا أثر له.
فحينئذٍ نقول: إنّ العلم بوجود أحكام في الكتب التي بأيدينا لا يوجبتنجّزها بهذا العنوان، فإنّ عنوان كون الأحكام في الكتب ليس من العناوينالتي تعلّق بها الحكم حتّى يتنجّز بما له من العنوان، ضرورة أنّه منالانتزاعيّات بعد جمع الأحكام في الكتب، وهذا ممّا لا يتعلّق به حكم، ولتكون الأحكام بذلك العنوان مورداً للتكليف، فالعلم الإجمالي المؤثّر متعلّقبنفس الأحكام بوجودها الواقعي، ويتردّد من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر،فينحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشكّ البدوي.
وممّا ذكرنا يتّضح أنّ ما ذكره من المثالين المتقدِّمين مورد للمناقشة، فإنّعنوان «البيض» ليس ممّا تعلّق به الحكم، حتّى يكون العلم المتعلّق به منجّزاً لهبعنوانه، فإنّه عنوان عرضي مقارن من باب الاتّفاق مع ما تعلّق به التكليف،وهو عنوان الموطوء، فالمتعلّق هو الموطوء لا الأبيض، فالعلم المتعلّق بهموضوع الأثر أي التنجّز، فحينئذٍ لو صحّ ما ذكره ـ من أنّه لو كان العلم متعلّقبعنوان كان منجّزاً لأفراده الواقعيّة، ولا ينحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيليوالشكّ ـ كان المثال الأوّل كذلك، لتعلّق العلم بالموطوء، وتردّده بين الأقلّوالأكثر، كما أنّ المثال الثاني أيضاً كذلك، لما ذكرنا، لا لتعلّق العلم بعنوانالبيض من الغنم، كما هو واضح.
(صفحه350)
وأمّا ما ذكره ـ من أنّه ليس للمكلّف الأخذ بالأقلّ لو علم باشتغاله بما فيالطومار ـ فهو أجنبيّ عن المقام، بل هو من قبيل الشبهات الموضوعيّة ـ التيسيتعرّض هذا المحقّق لها، ويختار وجوب الفحص فيها ـ ممّا لا يحتاج حصولالعلم بالموضوع فيها إلى مقدّمات كثيرة، بل يحصل بمجرّد النظر، فالفحص فيهلازم، ولو مع عدم العلم الإجمالي(1)، فالعلم الإجمالي من قبيل الحجر المضموملجنب الإنسان(2)، إنتهى كلامه«مدّ ظلّه».
الثاني: أنّه أعمّ من المدّعى، لأنّ المدّعى هو الفحص عن الأحكام فيخصوص ما بأيدينا من الكتب، والمعلوم بالإجمال معنى أعمّ من ذلك، لأنّمتعلّق العلم هي الأحكام الثابتة في الشريعة واقعاً(3)، لا خصوص ما بأيدينا،والفحص فيما بأيدينا من الكتب لا يرفع أثر العلم الإجمالي، بل العلم باقٍ علىحاله، ولو بعد الفحص التامّ عمّا بأيدينا.
جواب المحقّق النائيني رحمهالله عن هذا الإشكال
وأورد عليه المحقّق النائيني رحمهالله بأنّه وإن علم إجمالاً بوجود أحكام فيالشريعة أعمّ ممّا بأيدينا من الكتب، إلاّ أنّه يعلم إجمالاً أيضاً بأنّ فيما بأيدينمن الكتب أدلّة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما فيالشريعة عليها، فينحلّ العلم الإجمالي العامّ بالعلم الإجمالي الخاصّ ويرتفعالإشكال بحذافيره، ويتمّ الاستدلال بالعلم الإجمالي لوجوب الفحص، فتأمّلجيّداً(4)، إنتهى كلامه رحمهالله .
- (1) كما إذا احتمل المكلّف بنحو الشبهة البدويّة أنّ ذمّته مشغولة بدين لزيد، وعلم أنّها لو كانت مشغولةلكان مكتوباً في الدفتر الذي سهل الوصول إليه وإلى ما كتب فيه. م ح ـ ى.
- (2) أنوار الهداية 2: 418، وتهذيب الاُصول 3: 430.
- (3) حتّى ما كان في مثل الاُصول الأربعمائة التي لم تصل أكثرها إلينا، ولم يكتب بعض رواياتها في سائرالمجاميع الحديثيّة التي بأيدينا. م ح ـ ى.