ج5
لعدم حكم العقل بقبح العقاب حينئذٍ، فيستحقّ العقوبة إذا فعل محتمل الحرمةأو ترك محتمل الوجوب.
إنّما الإشكال في أنّ استحقاق العقاب بأيّ شيء يتعلّق؟ فيه احتمالات، بلأقوال ثلاثة:
أ ـ أن يكون استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع.
ب ـ أن يكون في قبال ترك الفحص الذي كان واجباً عقلاً، ولا ربط لهبالواقع.
ج ـ أن يكون لأجل ترك الفحص والتعلّم، لكن لا مطلقاً، بل فيما إذا كانترك الفحص مؤدّياً إلى مخالفة الواقع، فهذا الاحتمال الثالث تلفيق بين الاحتمالالأوّل والثاني.
بيان ما هو الحقّ في المسألة
والحقّ هو القول الأوّل، لأنّ لزوم الفحص ليس وجوباً نفسيّاً، بل وجوبمقدّمي، لأجل درك الأحكام الواقعيّة، ولذا لو سألنا العقل: لِمَ ألزمت علينالفحص؟ لقال: لأجل كونه طريقاً إلى الواقع، ولا تصحّ العقوبة على ترك أمرمقدّمي طريقي. فلو شكّ المكلّف في حرمة شرب التتن وكان في مثل كتاب«وسائل الشيعة» رواية دالّة على حرمته، لكنّه شربه من دون أن يرجع إلىهذا الكتاب، لاستحقّ العقوبة على ارتكاب الحرام الواقعي.
وأمّا القول الثاني: فمستنده بعض الأخبار التي سيأتي البحث عنها(1).
وأمّا القول الثالث: فاستدلّ عليه بوجه ضعيف جدّاً.
وهو أنّه لا يمكن عقاب المكلّف على صرف ترك الفحص، لأنّه أمر طريقي
(صفحه356)
مقدّمي لا يليق أن يعاقبه المولى لذلك، ولا على صرف مخالفة الواقع، لأنّالحكم الواقعي أمرٌ مجهول للمكلّف، ولا يمكن عقوبته على مخالفة واقعيّةمجهولة، فإذا لم يصلح واحد منهما أن يكون ملاكاً مستقلاًّ لاستحقاق العقوبة،فلابدّ من التلفيق بينهما، وهو أن يكون استحقاق العقوبة على ترك الفحص،لكن بشرط كونه مؤدّياً إلى مخالفة الواقع.
وفيه أوّلاً: أنّه لا يمكن أن يتولّد أمر ثبوتي من أمرين عدميّين، فلو لم يصلحترك الفحص ولا مخالفة الواقع لأن يستند استحقاق العقوبة إليه عند الانفراد،فكيف يمكن استناده إليهما عند الانضمام؟!
وثانياً: أنّ الجهل بالواقع بما هو جهل لا يمنع من استحقاق العقوبة، بل الذييمنع عنه في مورد الجهل هو قاعدة «قبح العقاب بلا بيان»(1) وقد عرفت أنّجريان هذه القاعدة يختصّ بما بعد الفحص، فلا يكون صرف الجهل رادععن استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع فيما إذا صدرت بدون الفحص عنالدليل، كما هو المفروض.
ولو كان صرف الجهل بالواقع مانعاً عن تنجّز التكليف واستحقاق العقوبةعلى مخالفته ـ سواء جرت البراءة أو لم تجر ـ لكانت المباحث الطويلة الذيلحول البراءة في الكتب الاُصوليّة لغواً.
والحاصل: أنّ المكلّف لو تمسّك بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» بدونالفحص عن الدليل لكان مستحقّاً للعقوبة على مخالفة الحكم الواقعي، لا علىترك الفحص مطلقاً، أو بشرط كونه مؤدّياً إلى المخالفة.
صور مخالفة الواقع، وما هو موجب لاستحقاق العقوبة منه
- (1) وكذلك أدلّة البراءة الشرعيّة، لكنّ البحث فعلاً إنّما هو في البراءة العقليّة. منه مدّ ظلّه.
ج5
ثمّ إنّه يتصوّر هاهنا ثلاث صور:
أ ـ أنّ المكلّف لو تتبّع في المنابع فرضاً لوجد دليلاً مثبتاً للتكليف، وتبدّلجهله بالواقع إلى العلم به.
ب ـ أن لا يكون في المنابع دليل أصلاً، لا على ثبوت التكليف ولا علىعدمه، فلو رجع إليها فرضاً لم يزل جهله.
ج ـ أن يكون في المنابع دليل على خلاف التكليف الواقعي، كما إذا شكّ فيحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وكان في كتاب«وسائل الشيعة» مثلاً رواية معتبرة على حلّيّة شرب التتن أو عدم وجوبالدعاء عند رؤية الهلال، فلو فحص المكلّف فرضاً لوصل إلى دليل معتبرمخالف للواقع.
فهل المكلّف التارك للفحص يستحقّ العقوبة على مخالفة الواقع في جميعهذه الصور أو في خصوص الصورة الاُولى؟
ربما يقال: في جميع الفروض الثلاثة.
لأنّ تمام الملاك لاستحقاق العقاب هو مخالفة الحكم الواقعي في فرض عدمالفحص، وهو موجود في المقام من دون فرق بين اشتمال المجاميع الحديثيّة علىبيان موافق للواقع أو مخالف له أو عدم اشتماله على بيان أصلاً.
ويمكن تقريبه بوجهين:
أحدهما: أنّ عدم استحقاق العقوبة على مخالفة تكليف المولى لابدّ من أنيستند إلى عذر، وهو مفقود في المقام.
نعم، لو رجع إلى مظانّ وجود الحكم ولم يجد ما يدلّ على الحكم الواقعي أووجد ضدّه، لكان عذراً له في مخالفة الواقع(1).
- (1) لجريان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» في الصورة الاُولى، وقيام حجّة معتبرة على نفي التكليف فيالصورة الثانية. م ح ـ ى.
(صفحه358)
لكنّه حيث لم يفحص لم يعلم بعدم الدليل، أو وجود الدليل على ضدّ الواقع،فلا يتمكّن من أن يستند عمله إليه، كي يكون عذراً له.
ثانيهما: أنّ المفروض عدم جريان قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قبلالفحص، فلا محالة يجري الاشتغال، لعدم توقّف العقل وسكوته في مسألة منالمسائل، بل إمّا أن يحكم بـ «قبح العقاب بلا بيان» أو بـ «لزوم الاحتياط»ولذا يحكم في الشبهات البدويّة بعد الفحص بالبراءة، وفي الشبهات المقرونةبالعلم الإجمالي بالاشتغال.
وبالجملة: إن لم يحكم العقل بالبراءة في الشبهات البدويّة قبل الفحص حكمبلزوم الاحتياط، وهذا الحكم العقلي كان بياناً من قبل المولى، إذ كما أنّ للمولىرسولاً ظاهريّاً، كذلك له رسول باطني، وهو «العقل»، فإن شرب المكلّفالتتن المحتمل الحرمة قبل الفحص وكان في الواقع حراماً استحقّ العقوبة، لحكمالعقل حينئذٍ بـ «لزوم الاحتياط» الذي هو بيان مبرّر للعقوبة، ولا فرق فيذلك بين أن يكون نتيجة الفحص ـ لو فحص ـ عدم الوصول إلى دليل أصلاً،أو الوصول إلى دليل موافق للواقع أو مخالف له.
الحقّ في المسألة
والحقّ عدم استحقاق العقوبة إلاّ في خصوص ما لو فحص لوصل إلىحجّةموافقة للتكليف، بخلاف ما إذا لم يكن في المنابع دليل أصلاً، أو كان فيها حجّةمخالفة للتكليف.
وذلك لأنّ المكلّف معذور في مخالفة التكليف الواقعي في الصورتينالأخيرتين، إذ المفروض أنّه لو فحص لم يصل إلى دليل مثبت له.
ج5
والمكلّف وإن لم يلتفت إلى هذا العذر ولم يستند عمله إليه، لكنّ الالتفاتإلى العذر واستناد العمل إليه مسألة ونفس واقعيّة العذر مسألة اُخرى، وعدماستحقاق العقوبة يدور مدار نفس العذر واقعاً، لا مدار استناد العمل إليه.
نعم، ارتكاب المشتبه عند العذر الواقعي المغفول عنه يكون تجرّياً في صورةعدم الفحص، لكنّ البحث إنّما هو في استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع، لعلى عنوان «التجرّي».
وبعبارة اُخرى: إذا كان المكلّف معذوراً واقعاً في مخالفة التكليف لم تتغيّرواقعيّة العذر عمّا كان عليه بسبب غفلته عنه، فلا يستحقّ العقوبة مع قطعالنظر عن «التجرّي» الذي لا نبحث هاهنا عنه.
وأمّا حكم العقل بلزوم الاحتياط عند عدم الفحص فمسلّم، لكنّه ليسلأجل التحفّظ على الواقع كي لا يفرق بين الصور الثلاثة في لزوم الاحتياط،ضرورة أنّه لو كان لأجل التحفّظ على الواقع لوجب الاحتياط حتّى بعدالفحص، ضرورة أنّه يحتمل بعده أيضاً أن يكون شرب التتن حراماً في الواقع.
وبالجملة: لو كان حكم العقل بلزوم الاحتياط بملاك التحفّظ على الواقعلجرى قبل الفحص وبعده كليهما.
لكنّ الحقّ أنّه بملاك آخر، وهو احتمال وجود بيان على التكليف في مظانّه،كـ «وسائل الشيعة» وسائر المجاميع الحديثيّة.
وحينئذٍ لا وجه لحكم العقل بوجوب الاحتياط فيما إذا لم يكن في المنابعحجّة مثبتة للتكليف، سواء لم يكن بيان أصلاً، أو كان نافياً للتكليف، فليستحقّ المكلّف العقوبة على مخالفة الواقع في هاتين الصورتين.
والحاصل: أنّ القاعدة تقتضي استحقاق العقوبة على المخالفة فيما لو فحصلوصل إلى بيان مثبت للتكليف، بخلاف الصورتين الاُخريين. هذا في